تمهيد
ثمة تأسيس وتأصيل إمبريالي وكوني لخطاب العالمية الغربية من خلال تبرير سياسات الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوى المركزية للنظام العالمي، وما تقوم به دول الناتو وبريطانيا والإعلام الغربي المركزي بالتدخل المهيمن على أحداث منطقة الشرق الأوسط أو ما يسميه المستشرقون “بدول الهامش”.
يبدو الأمر في غاية الخطورة لأن أمريكا باعتبارها روما الجديدة تعيد إنتاج خطاب ثنائي ثابت ولا يقبل الآخر المختلف: صراع الخير والشر، والتابعين للنظام العالمي الأوروبي والخارجين عن هذا النظام. ويتمثل هذا الصراع في كل ما تقوم بانتاجه المركزية الأوروبية من قيم الحرب والسلام والسوق الحرة والنظام العالمي الجديد، وقد لعبت الجامعات دورا مهماً في الترويج لهذه المركزية الغربية شكلا وموضوعا.
يدور مضمون الخطاب الغربي الذي نتحدث عنه هنا حول فكرة التمترس خلف معسكر القيم الغربية العالمية من قبل كل دول العالم المعاصر، خصوصا دول الهامش، كي يكون انخراط هذه الدول في خطاب العالمية الأوروبية شكلا من أشكال التدجين الحضاري بنزعته الريغنية (نسبة إلى ريغين)، وصولا للمرحلة الترامبية (نسبة إلى ترامب)، والتي شكلت التمظهر الأخطر للعالمية الغربية في نسختها المتطرفة، والتي أذكت نزعة الإسلاموفوبيا، ورفض المهاجرين. وكان هذا التمثل واضحا أيضا لدى إدارة بوريس في بريطانيا وكل الإدارات الأوروبية المحافظة، والتي تنظر بعين الريبة والاستشراق الهوياتي لكل المهاجرين من وراء المتوسط أو أي جهة أخرى، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين القادمين من الشرق الأوسط ومن بعض البلدان الإسلامية.
ماذا قدمت الديمقراطية الأمريكية للشرق الأوسط، لو افترضنا أنها تقوم على قيم الآباء المؤسسين من العدل والمساواة والحرية، في ظل سياسات التدخل الأمريكي المستمرة، والتي توجت بصفقة القرن؟
في مقاله الموسوم “المفاهيم السياسية الامبريالية” (مسعد، 2020)، يرى المفكر العربي جوزيف مسعد أن الولايات المتحدة قد وسعت جهودها النيوليبرالية إبان عهد الرئيس الأربعين للولايات المتحدة رونالد ريغان (1981-1989)، وذلك “لاحتواء الكرة الأرضية بمجملها، لتغيير المفاهيم السياسية الرئيسية التي نظر لها اليسار العالمي ضد السلطة الكونية للولايات المتحدة”. ويؤكد مسعد في المقال نفسه أن هذه الطموحات الاستعمارية اتكأت على هدف جوهري وهو “إعادة تشكيل الثقافة السياسية العالمية” ليس فقط داخل حدود الولايات المتحدة بل خارجها. ولعل ما يسميه فرانسيس فوكوياما بالديمقراطية الليبرالية، ينسحب على هذا السياق. حيث لا بد لنا هنا من أن نتذكر الثيمة الرئيسة في أطروحة نهاية التاريخ، وذلك في مقال فوكوياما الشهير والموسوم “بنهاية التاريخ”، وهي أن فكرة الصراع التاريخي الطبقي والوجودي بين السادة والعبيد- حسب وصفه، لا يمكن أن يجد له نهاية واقعية سوى في الديمقراطيات الغربية واقتصاد السوق الحر، ناهيك عن أن المستقبل من وجهة نظر فوكوياما مرهون بنظام الرأسمالية الذي لا يمكن لأي نظام عالمي آخر مجابهته. وأطرح هنا سؤالا مفتوحا وإجابته مضمرة فيه: فإن كان فوكوياما محقا، فماذا قدمت الديمقراطية الأمريكية للشرق الأوسط، لو افترضنا أنها تقوم على قيم الآباء المؤسسين من العدل والمساواة والحرية، في ظل سياسات التدخل الأمريكي المستمرة، والتي توجت بصفقة القرن؟
يبدو أن الآلة الآيدولوجية للعالمية الغربية وخطاب الإرهاب العالمي هما سردية مركزية غربية، قُدمت للعالم كمسلمات معرفية وعلاجية وحضارية مضللة استنادا لتوصيف جاك ديريدا ” Pharmakon” والذي يتلخص بتقديم البلسم للعالم الهامشي المريض حضاريا حسب زعم خطاب العالمية الغربية. لنجد أن هذا البلسم كما يصفه مصطفى سعيد في رواية الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”. يقول مصطفى سعيد وهو يقدم للمحاكمة السردية والتاريخية: “إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام” (ص117).
الإمبريالية العالمية وخطاب السلطة والإرهاب
وأجد في أطروحة امانويل ولرستاين عن “العالمية الأوروبية وخطاب السلطة” نصا تأويليا عقلانيا أتوسل به لتفكيك بنية المفهوم وآثاره الآيدولوجية والجيوسياسية. يقدم لنا ولرستاين تحليلا بديعا لهذه القيم الأوروبية المركزية بما فيها ما وصفه بالدفاع عن حقوق الإنسان تحت مسمى الديمقراطية العالمية، والترويج لخطاب صراع الحضارات، والذي تتجلى فيه منظومة الغرب المتفوق والهامش التابع، وفرض نظام عالمي صارم يجعل فكرة التبعية لقيم السوق الحرة فكرة براجماتية لا بديل عنها حسب ما يرى الغرب المركزي. والمتتبع لخطابات توني بلير وجورج بوش وأوباما وترامب يستطيع بسهولة قراءة المحاور الجوهرية التي ذكرت في النص الضمني أو الظاهر لما يقولون ويروجون آيدولوجيا وسياسيا فيما يخص مشروع الامبريالية الغربي واستراتيجيات التدخل القهري في الشرق الأوسط.
ناقش كل من سورين كيركيجارد (1813-1855) وآدم سميث (1723-1790)، وبينجامين فرانكلين (1706-1790)، وابراهام لينكولن (1809-1865) وهيكتور كريفيكور (1735-1813)، مروراً ببرنارد لويس (1916-2018) وصامويل هنتنجتون (1927-2008) وفرانسيس فوكوياما (1952) جذور العالمية الأوروبية، وتكمن المفارقة التاريخية هنا أن المسيحيين الأرثوذوكس كانوا يعتقدون أن هذه النسخة من العالمية الأوروبية تولد خطابا مركزيا لا أخلاقيا. أما الخطاب المركزي الغربي في نسخته الاستشراقية والامبريالية، فقد ارتبط بحروب التوسع والاستعمار الأوروبي في كل قارات العالم. وإلا كيف لنا أن نفهم حملة نابليون بونابرت في مصر، وما فعله الفرنسيون في مصر والجزائر، والاستعمار البريطاني لبعض دول الشرق الأوسط وإفريقيا؟
وربما أن اماونيل ولرستاين (1930-2019)، الذي رحل قبل أشهر، كان محقا كنظيره جورج أوريل (1903-1950)، عندما أكد أن اللغة الجديدة التي يستخدمها الخطاب الغربي العالمي المركزي هي لغة حقوق الإنسان في نسختها الليبرالية، والتي يقدمها لنا الغرب كجزء عضوي من المعرفة العلاجية لمرض الشرق الحضاري.
العالمية الأوروبية وآيدولوجيا الانتلنتجسيا
لقد تم ابداع مصطلح الشرق الأوسط، كما هو معروف، في منتصف القرن التاسع عشر، وبصناعة بريطانية كولينيالية خالصة، وفي سياق الحرب على الإرهاب، كما يؤكد حميد دباشي .(2008, 267) ويشير دباشي في كتابه “ما بعد الاستشراق” إلى أن خطاب العالمية مرهون بالتراكم المعرفي والابيستومولوجي لما يعرف “دراسات الشرق الأوسط” وما يمكن تسميته “إنتاج المعرفة في عصر الإمبراطورية”. ويشرح دباشي التواطىء المرعب بين جامعة هارفرد ممثلة “بهنري كسينجر” وجامعة ييل ممثلة “بوليام. ف. باكلي الابن” مع المخابرات المركزية الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالي في التجسس على الطلبة والأساتذة ممن اعتبروا حملة أفكار هدامة. وتشمل هذه الفضيحة الكبرى أيضا “المناهج الدارسية والممارسة العملية والبحثية المتعلقة بها” (272).
من الأشكال الأخرى لتمظهرات العالمية الغربية المركزية وهو إنتاج معرفة غربية مركزية من قبل جيش مهول من المستشرقين والمشتغلين مع المؤسسات الحكومية من مثقفي الانتجلنتسيا، وما يسميهم اجناتس غولدتزيهر “متخصصين بلا روح”
ولعل البعض يعتبر مثل هذه الأطروحات شكلا جوهرانيا لنظرية المؤامرة، لكن النبش في فرضية سرديات التواطؤ الأكاديمي بين جامعات أمريكية كبرى وبين جهاز المخابرات الأمريكي، يثبت أن هذا الأمر قد ناقشه عديدون عبر العقود الأخيرة، وقد أكده مارتين كريمر في كتابه “أبراج العاج على الرمال: فشلُ دراسات الشرق الأوسط في أمريكا” (2001)، حيث تتبع مثل هذا التشابك المعرفي الاستخباراتي فيما يقوم به معهد Hoover، وما آلت إليه الحرب “الإبادية” في أفغانستان والعراق حسب اقتباس دباشي (273). هذه النزعة العالمية في حلتها المعرفية المضللة جلية أيضاً في كتاب تلميذ برنارد لويس سام هاريس في كتابه الأكثر مبيعا في أمريكا The End of Faith””. إذ يذكر هاريس في كتابه أن مواجهة المسلمين أصبحت ضرورية راهنة وملحة كخطر وجودي على عالم السلام والخير، باعتبار الدين الإسلامي والمسلمين محور للشر والإرهاب (2004, 108). ولا يخفى على أحد هذا الاتساق الممنهج بين هذه الأفكار وبين صيرورة العالمية الأوروبية ونحن نشهد ترامب وهو يفتح صندوق باندورا بكل تبجح فيما يخص العراق وليبيا وسوريا واليمن والمنطقة برمتها وملف القضية الفلسطينية.
ومن الأشكال الأخرى لتمظهرات العالمية الغربية المركزية وهو إنتاج معرفة غربية مركزية من قبل جيش مهول من المستشرقين والمشتغلين مع المؤسسات الحكومية من مثقفي الانتجلنتسيا، وما يسميهم اجناتس غولدتزيهر “متخصصين بلا روح”. يذكر المفكر الإيراني الأمريكي حميد دباشي- أستاذ الفكر وعلم الاجتماع في جامعة كولومبيا- في كتابه “ما بعد الاستشراق: المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب”، أن الباحث الإيراني محمد القزويني (1877-1949) قال في المستشرقين أن فيهم “عددا من الدجالين ممن يسمون باحثين، وهم مشعوذون يفوقون المستشرقين العباقرة والباحثين الحقيقيين عددا بأشواط” (113).
ولا بد هنا من الالتفات لما يطرحه وائل حلاق في كتابه “قصور الاستشراق” (2018) عن الأكاديمية الغربية وما تنتجه من باحثين ومعرفة هي في الأصل نظام “خضع لإرادة الدولة السيادية في القرن التاسع عشر… كما أن الدولة -إضافة إلى الشركات- هي التي تقوم بتمويل الجامعات، وهو الأمر الذي يرتبط غالبا بشروط سياسية وغيرها (يعتبر إنشاء أقسام “دراسات المناطق” في الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة مثالا معبرا عن هذا الأمر) (171).
ولعل وائل حلاق يتقاطع هنا مع نعوم تشومسكي في حديثه عن تحول بعض الجامعات لنظام شركاتي رأسمالي ونيوليبرالي متواطىء مع الآلة العسكرية والآيدولوجية العالمية للدولة الأمريكية خصوصا فيما يخص التدخل السافر في شؤون الشرق الأوسط والعالم تحت مسميات التقدم والتنمية. واستنادا لما يقوله حلاق، فإن هذا الدور الأكاديمي في إدارة الدولة لا يقتصر فقط على التشابك المباشر في صناعة المعرفة العالمية الغربية بشقيها السياسي والعسكري، بل أصبح هنالك أبحاث متخصصة “وبصورة مستترة، لممارسة الدولة للعنف” بما فيها التفنن في استحداث طرق جديدة لتعذيب السجناء السياسيين، بالتعاون مع كليات الطب والكليات الإنسانية (172). وربما يذكرنا هذا الأمر بفكرة موت الجامعة التي تحدث عنها الناقد البريطاني المعروف تيري ايجلتون في مقاله المشهور ”موت الجامعات” (2010).
وربما يكمن السؤال الجوهري والذي يشغل الوعي العالمي الأخلاقي: كيف لنا أن نجابه التأثيرات السلبية للعالمية الأوروبية المركزية كشعوب ما بعد الكولينيالية في وقت يمارس فيه الحكام دورا سياديا مطلقا فيما يخص السياسة الداخلية، ودورا تابعا لكل ما تفرضه العالمية الأوروبية؟
المراجع باللغة العربية
- دباشي، حميد “ما بعد الإستشراق: المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب”، ترجمة باسل عبدالله وطفة، دار المتوسط. الطبعة الأولى 2015.
- حلاق، وائل “قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي”، ترجمة عمرو عثمان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2018.
- مسعد، جوزيف “المفاهيم السياسية الامبرالية”، صحيفة الأخبار، بيروت، 2020.
المراجع الأجنبية
- Wallerstein, Immanuel Maurice. European Universalism: The Rhetoric of Power. New York, 2006. Print.
- Said, Edward. Culture and Imperialism. New York: Knopf, 1994. Print.
لا تتحمل فيستو أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء منظمة فيستو. تتعهد فيستو بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.