يناقش هذا المقال الانعكاسات المترتبة على السلوك السياسي لدول منطقة شمال إفريقيا بفعل الهوية المغاربية المشتركة لهذه الدول، بالإضافة إلى التقارب الجغرافي فيما بينها. كما يبحث المقال في مدى تأثير هذه العوامل مجتمعةً على ديناميات التعاون والنزاع في شمال إفريقيا، عن طريق تسليط الضوء على دور الأنظمة والنخب السياسية بما تحمله من رؤىً وأعرافٍ مجتمعية.
القواسم المشتركة والتباينات في منطقة شمال إفريقيا
ما الذي يجعل من شمال إفريقيا منطقةً قائمةً بذاتها؟ عُرِفت منطقة شمال إفريقيا خلال حقبة الاستعمار الفرنسي باسم “أفريقيا الشمالية” (Afrique du Nord)، وخلال الحقبة الإسلامية باسم المغرب الكبير. ويتضمن الاصطلاح الأكثر تداولاً لمنطقة شمال إفريقيا أربع دول، وهي: الجزائر، والمغرب، وتونس، وليبيا. لكن هذا الاصطلاح لا يتضمن مصر. وفي الماضي، وقعت منطقة شمال إفريقيا تحت نفوذ الفينيقيين والقرطاجيين والرومان والمسيحيين والوندال(Vandal) والبيزنطيين، وأخيرًا، العرب المسلمين.
من الناحية التاريخية، تشترك دول شمال إفريقيا في ذاكرةٌ جمعيّةٌ وتاريخٌ مشترك. وقد كانت تتألف من وحدة سياسية واحدة في القرنين الحادي والثاني عشر تحت حكم دولة المرابطين، حيث قامت بتوحيد دول شمال إفريقيا ضمن إدارات متجاورة خاضعة للحاكم ذاته. ينطبق الأمر ذاته على الحقبة الرومانية والعثمانية (باستثناء المغرب)، والحقبة الفرنسية (باستثناء ليبيا) خلال الكفاح ضد الاستعمار.
ومن الناحية اللغوية، تعد لغة منطقة شمال إفريقيا علامةً على الهويتين الثقافية والسياسية. فاللغة لم تقتصر على بعدها التواصلي، بل تعكس كينونتهم وحياتهم. وبعد الفتح الإسلامي لبلاد المغرب الكبير، أصبح سكان شمال إفريقيا يتحدثون اللغة العربية بدلاً من اللغة الأمازيغية. اللغة باعتبارها وسمًا دائمًا على الهوية، ووسيلةً للنضال، ورمزًا للهوية والثقافة المغاربية المهددتين (عرب، مسلمون، وبربر). وقد مثلت اللغة المشتركة في المغرب الكبير عنصرًا أساسيًا من عناصر التضامن بين الشعوب ضد الاستعمار والتهميش.
بعد استقلال بلدان شمال إفريقيا، أصبحت اللغة مصدرًا لمشكلتين رئيسيتين. أولها عملية التعريب، حيث أصبحت اللغة أداة مسيّسة أوجدت فجوة بين النخب التي كانت منقسمة بين مناصر للفرانكوفونية وبين مناصر للعربوفونية. وأما القضية الثانية فكانت مرتبطة بلغة التعليم ونقص رأس المال البشري (المعلمين). كما اتسمت المشاعر القومية والمصالح الوطنية بالتناقض فيما بينها. وفيما يتعلق بالجانب الديني، فإن المجتمعات المغاربية مسلمةٌ سنيّةٌ على المذهب المالكي. ولهذا السبب عزز التوحيد العقائدي الديني الهوية الإقليمية الجماعية.
القبيلة والنسب من بين أكثر العوامل المؤثرة التي أثرت على الديناميات الاجتماعية في شمال إفريقيا على مر التاريخ
لم تكن الدولة هي اللاعب الوحيد في الديناميات الإقليمية لبلدان شمال إفريقيا، بل كانت هناك أطراف فاعلة غير حكومية. ولم تكن هذه الأطراف أقل أهمية، بل كان لها ذات القوة التأثيرية التي اتسمت بها العوامل الهوياتية نفسها. وبالتالي، فمن الضروري أن نفهم المنظمات الاجتماعية والجهات الفاعلة غير الحكومية لتوضيح ديناميات النزاع والتعاون على المستوى الاجتماعي وعلى مستوى الدولة في منطقة شمال إفريقيا. القبيلة والنسب من بين أكثر العوامل المؤثرة التي أثرت على الديناميات الاجتماعية في شمال إفريقيا على مر التاريخ. تقوم القبيلة عمومًا على العلاقات العِرقية التي يشترك الأفراد والجماعات ضمنها في ذات القيم ويتكاتفون معًا في مناسبات شتى، بما في ذلك المناسبات السياسية.
تمثل القبائل نوعًا من التنظيم الاجتماعي، وهو ما قد يمنع الاجتماع على أساس القومية. علاوة على ذلك، فإن النسب يعتبر قوة رئيسية في تغيير هيكل العلاقات الاجتماعية في العديد من المجالات، كالسياسة والاقتصاد والزواج…، إلخ. يعنى النسب بالولاء، لا السلطة السياسية. كما أن للنسب القدرة على تحديد من يمكنه التفاعل والتواصل مع من وتحت أي ظروف.
ديناميات النزاع في شمال إفريقيا
أثر النزاع على أمن المغرب الإقليمي وسلامة أراضيه على منطقة شمال إفريقيا، أولاً فيما يتعلق بالحدود، وثانيًا فيما يتعلق بالنزاع حول الصحراء الغربية.
يصف الباحثون العلاقة بين الجزائر والمغرب باستخدام مصطلح “الأخوة الأعداء” (frères ennemis). بدأت الإشكالات بين الجزائر والمغرب منذ بداية استقلالهما. وكانت السياسات الاستعمارية السبب الرئيسي وراء هذه الإشكالات. وخلال الحرب الباردة، اصطف كل من البلدين على طرفي نقيض. وقد تنافسا لفترة طويلة سعيًا لأن يكون كل منهما القوة المهيمنة في المنطقة. وعلى الرغم من كونهما الطرفين الرئيسين في شمال إفريقيا، إلا أن العلاقات فيما بينهما كانت مضطربة. و أصبح الصراع حول الصحراء الغربية العامل الرئيس في تشكيل السياسة الإقليمية الداخلية والخارجية لشمال إفريقيا. لعبت الجزائر والمغرب الدور الرئيسي في هذا الصراع، والذي أثر على حاضر ومستقبل 85 مليون إنسانٍ مغاربيّ من خلال إضعاف التعاون والتكامل الإقليمي. عرقل التعاون الأمني الإقليمي لشمال إفريقيا التصدي للتهديدات الإقليمية المتمثلة بالإرهاب وتهريب الأسلحة، وغيرها. شرح العديد من الخبراء موقف الجزائر في هذا الصراع، واتجه بعضهم إلى القول بأن سياسة الجزائر تهدف إلى زعزعة استقرار المغرب، بينما قال آخرون إن سياسة الجزائر سياسة مثالية، وهي تعكس قيمها فيما يتعلق بتقرير المصير، وهو ما شكل بوصلتها نحو إنهاء الاستعمار الفرنسي للجزائر[1].
يعد الصراع حول الصحراء الغربية صراعًا بين تصورات وأعراف متنافسة. ينظر المغرب إلى الصحراء الغربية على أنها جزء من أراضيها السيادية، وبالتالي، فهو يعتبر النزاع شكلاً من أشكال زعزعة الاستقرار الوطني. أما الجزائر، بسبب انتهاجها مبدأ “تقرير المصير”، فهو يدعم مطالب القوميين في الصحراء الغربية بالاستقلال عن المغرب، تحت قيادة جبهة البوليساريو[2].
إحدى المشكلات التي أحدثها النزاع الحدودي، إغلاق الجزائر حدودها مع المغرب عام 1994، بسبب المخاوف الأمنية. ونتيجة لذلك، أصبحت حركة الناس والتبادل الاقتصادي عبر الحدود أمرًا مستحيلاً ليس فقط بين البلدين ولكن أيضًا بين المغرب وبلدان أخرى في المنطقة. على وجه التحديد، تمثل الجزائر حاجزًا جيوسياسيًا بين المغرب وليبيا، والدولة المغاربية الأخرى التي لا تشاركها الحدود.
لقضايا الحدود تأثيرها على المجال الاجتماعي والثقافي؛ فالحدود – في أي منطقة – تشكل مفاهيم ومشاعر متبادلة بين “الآخر” و “الأنا”. الحدود هي بُعدٌ في ذاتها من وجهة النظر الثقافية. كما أن لها تأثيرًا على الصورة الاجتماعية والاقتصادية للمناطق المجاورة. كما تحمل الحدود أيضًا تأثيرًا نفسيًا على وضع السكان المقيمين على طول الحدود، إذ أن الحدود لا تقتصر على تمثيل القرب الجغرافي فقط، بل إنها تمثل نقطة الاتصال بين القواعد والقيم والرموز[3].
أحدث التغيير الإقليمي الجديد – بعد الربيع العربي – نوعًا من التأثير على العلاقات الجزائرية المغربية. فقد عادت العلاقات بين البلدان المغاربية إلى مبادئها الأولى: أي أن العلاقات بين الجزائر والمغرب أصبحت علاقاتٍ بسيطة، تشبه التبادل الذي يحدث في أسواق الأسهم. يدعي المغرب أن الجزائر قد خسر – بسقوط الرئيس معمر القذافي – حليفًا استراتيجيًا. ومع ذلك، لا يبدو أن لهذا الادعاء من الصحة في شيء لأن نظام معمر القذافي كان جارًا مزعجًا للجزائر ومصدرًا للمشاكل وانعدام الأمن. لذلك، زاد هذا الوضع في شمال إفريقيا (المغرب الكبير) من الاستقطاب السياسي بين الجزائر والمغرب. بالإضافة إلى ذلك، كان للمغرب علاقات خارجية معتدلة مع كل من الحلفاء الغربيين والعرب، لكن الجزائر كان ضد أي تدخل أجنبي. وهذا ما يجعل المغرب الكبير موقع نزاع بين التأثيرات الأجنبية. ومع ذلك، فإن هذا التغيير لم يؤثر على ميزان القوى في المنطقة.
وعلى نقيض هذين البلدين، فقد اتسم سلوك تونس قبل الربيع العربي وبعده بسياسة عدم التدخل في النزاعات، وهذا بسبب حجمها وعدد سكانها وقدراتها ومواردها المحدودة. لذلك، فإن تونس لم يكن مصدرًا لعدم الاستقرار والصراع في المنطقة.
ديناميات التعاون في شمال إفريقيا
دفعت الأزمة الليبية دول شمال إفريقيا إلى التعاون مع بعضها البعض. فقد مثلت الأزمة تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي لشمال إفريقيا، وبالتالي، زاد التعاون فيما بين البلدان المغاربية، خاصة بين الجزائر وتونس.
وفيما يتعلق بالقطاع الاقتصادي، فلدى بلدان شمال إفريقيا اختلافات هيكلية-بنيوية. ففي حين يعتمد اقتصاد الجزائر وليبيا على النفط والغاز، يعتمد كل من اقتصاد المغرب وتونس على السياحة والقطاعات الاقتصادية الأخرى. ولذلك، فقد ترك هذا الاختلاف الهيكلي أثره على التعاون الاقتصادي بين هذه البلدان. وبسبب هذا الاختلاف، نجد التجارة المغاربية موجهة إلى حد كبير نحو أوروبا بدلاً من أن توجه نحو جيرانها من بلدان شمال إفريقيا. علاوة على ذلك، فإن مستوى التجارة داخل المنطقة المغاربية أقل من مستوى العديد من الكتل التجارية في العالم. فوفقًا لتقريرٍ صادرٍ عن البنك الدولي، تمثل التجارة داخل المنطقة المغاربية أقل من 2% من إجمالي الناتج المحلي في المنطقة وأقل من 3% من إجمالي التجارة في المنطقة دون الإقليمية. وبهذا المعنى، تكون الخيارات السياسية أثرت بالسلب على التعاون الاقتصادي في المنطقة.
دفعت الأزمة الليبية دول شمال إفريقيا إلى التعاون مع بعضها البعض. فقد مثلت الأزمة تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي لشمال إفريقيا، وبالتالي، زاد التعاون فيما بين البلدان المغاربية، خاصة بين الجزائر وتونس.
الدول ليست الفاعل الوحيد في السوق الاقتصادية لشمال إفريقيا. لا يبدو أن القطاع الخاص يواجه صعوبات في العمل في المنطقة المغاربية ، لأنه ليس لديه أي أهداف سياسية. وبالتالي، فإن من شأن التعاون بين القطاعات الخاصة أن يحسن النشاط الاقتصادي ويوفر فرص العمل للشباب المغاربي. وقد تتسبب الأزمات الاقتصادية التي تضرب أوروبا بدفع الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية إلى إجراء حوار يهدف إلى التعاون الاقتصادي في المنطقة المغاربية.
وفقًا لليونسكو، فإن المنطقة المغاربية لديها “مشترك ثقافي ينبغي تحديدها وجردها وصونها”. ومن الناحية الثقافية، تتمتع المنطقة المغاربية بتراث مشترك ثقافي هائل. مثل اللهجة والموسيقى والمأكولات، والتي يمكن اعتبارها أساسًا قويًا للتعاون الثقافي المستقبلي الحقيقي.
وختاما، اقترح تقرير لمعهد بيترسون (Peterson Institute)، حول التكامل الإقليمي والعالمي في المغرب[4]، بعض الحلول للتعاون المحتمل بين بلدان شمال إفريقيا. يقول التقرير إن هناك رغبة بين الشعوب والمجتمعات المغاربية لتحقيق التكامل الإقليمي والوحدة المغاربية. لذلك، يتعين على الحكومات التفكير برزانةٍ حول ما يمكن اكتسابه إذا تم فتح الحدود بين كل من هذه البلدان، لأن الوضع السياسي الحالي يعيق النمو الاقتصادي ويهدد الهوية الثقافية الإقليمية والتماسك الاجتماعي.
[1] Jacob Mundy, “Algeria and the Western Sahara Dispute,” The Maghreb Center Journal, Issue. 1 (2010).
[3] Attila Fabian, “Constructivist Views of Cooperation along the Border”, Acta Univ. Sapientiae, Economics and Business 1, (2013), 39-51.
[4] Brunel, Claire, and Gary C. Hufbauer. Maghreb regional and global integration : a dream to be fulfilled. (Washington, DC: Peterson Institute for International Economics, 2008).
لا تتحمل فيستو أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء منظمة فيستو. تتعهد فيستو بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.