مقدمة
يواجهُ العالمُ منذ أشهر أزمةً صحيةً عالميةً تتمثلُ بانتشارِ فايروس كورونا (كوفيد-19), الذي صنفته منظمةُ الصحةِ العالميةِ كوباءٍ بدرجةِ جائحة، بالتزامنِ مع تجاوزِ عددُ المصابينَ حولَ العالمِ حاجزَ المليونين والنصف مصاب، ووفاةِ ما يقارب من مئة وسبعين ألفا، جرّاءَ وباءٍ لم يميّز بينَ عرقٍ أو دينٍ أو جنس. وقد شهد التاريخُ الحديثُ العديدِ منَ الأمراضِ والأوبئةِ السابقة والتي أدّت إلى خسارةِ ملايينَ الأرواح، ومنها ما عُرِفَ بالإنفلونزا الإسبانية عامَ 1918 التي حصدت أكثرَ من 50 مليونا، والإنفلونزا الآسيوية عامَ 1957، والإنفلونزا الروسية عامَ 1977. وقد ترتبُ على كل هذه الأزماتِ العديدُ منَ الآثار الصحيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ، لكنَ الرابطَ المشتركَ بينها هو الأثرُ المترتبُ على حقوقِ الإنسان.
لقد وضعت منظومة حقوق الإنسان قواعد عدة للتعامل مع الحالات الإستثائية كهذه، فليست قواعد حقوق الإنسان رفاهيةً خاصة بأوقات الرخاء والسلم، بل تضمنت ما يحمي الحقوق ضمن الظروف الاستثنائية التي يصبح فيها التغول على حقوق الإنسان مقبولاً عادةً. ويناقشُ هذا المقالُ آثارَ أزمةِ “فايروس كورونا” المترتبةِ على حقوقِ الإنسان، سواء فيما يتعلق بتطبيقِ قانونِ الطوارئ/الدفاع في العديدِ منَ الدولِ، والذي يتيح للدولة تقييد بعض الحقوق، أو من حيث الضمانات الواجبُ تقديمها من قِبَلِ الدولِ في هكذا ظروف، وحقوقِ الأشخاصِ المصابينِ بالفايروس، بالإضافةِ إلى الآثارِ المترتبةِ على حقوقِ العمالِ والعاملاتِ في ظلِ التغيراتِ المترتبةِ على بيئةِ و شكلِ العملِ، والعالم الجديد ما بعد أزمة الكرونا.
قانون الطوارئ وحقوق الإنسان: التقييد المسموح والممنوع
شرعت العديدُ من دولِ العالمِ بتطبيقِ قانونِ الطوارئ في محاولةٍ لاحتواءِ تفشي وباءِ فايروس كورونا، الأمر الذي يمكّنُ السلطاتِ التنفيذيةِ من تعطيلِ القوانينِ التي قد تعيقُ عَمَلها في ظلِ الظروفِ الاستثنائيةِ التي تحيط بتفشي الوباء. ومن ضمن التدابير الاستثنائية فرضِ حظرِ التَجوالِ وتقييد حريةِ التنقلِ وإيقافِ العديدِ منَ الأنشطةِ لمكافحةِ انتشارِ الوباءِ. لكن ذلك ينبغي أن يتمَ بأضيقِ نطاق، وألا يمسَ الحقوقَ المدنيةَ والسياسيةَ للمواطنين.
التقييدات على حرية التعبير والتجمع السلمي وغيرها هي تقييدات محددة، وليست مطلقة، فينبغي أن تكون القيود “شرعية ومتناسبة وضرورية“
لقد أجازَ القانونُ الدولي والعديدُ منَ المعاهداتِ والصكوكِ الدوليةِ، ومنها المادة 4 منَ العهدِ الدولي الخاصِ بالحقوقِ المدنيةِ والسياسية، تقييد جزءٍ من حقوقِ الأفرادِ في حالاتِ الحرب، وفي حالاتِ تفشي الوباء أو الكوارثَ الطبيعيةِ أو غيرها منَ الظروفِ الاستثنائيةِ التي تهددُ حياةَ الأمةِ والسلمِ المجتمعي، وهو ما ينطبق على الوضع الراهن. وتشمل الحقوق التي يمكن تقييدها، الحق في حريةِ التعبيرِ وحق التجمعِ لأغراضٍ مشروعة، لكن تلك التقييدات ينبغي ألا تؤثرَ على جوهرِ الحقوقِ المتأصلةِ في الشخصِ الإنساني، وألا يتمَ المساسُ بالحقوقِ المنصوصِ عليها في الفقرةِ الثانيةِ منَ المادةِ الرابعةِ منَ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ومنها الحقِ في الحياةِ، وعدمِ إخضاعِ أيِ شخصٍ للتعذيب.
كما أن التقييدات على حرية التعبير والتجمع السلمي وغيرها هي تقييدات محددة، وليست مطلقة، فينبغي أن تكون القيود “شرعية ومتناسبة وضرورية” من أجل تلبية الاحتياجات العامة التي لأجلها تم فرض حالة الطوارئ. وبالتالي، فإن الحد من حرية التعبير الذي يتجاوز ذلك يمثل انتهاكا للحقوق والحريات. ينبغي بالضرورة أيضا عدم الخلط بين واجب الدولة في دحض الشائعات والأكاذيب، وبين منع المحتوى الصحفي أو المنشورات العامة التي لا تتصل بذلك، حيث الأصل في هذه أنها محمية بموجب حقوق الإنسان، حتى في أوقات الطوارئ.
وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة رقم 29 على أن يخضع الفرد للقيود التي تُفرض ضمن قانون الطوارئ، على أن لا يتم إنتهاك الحقوق الأساسية. كما تطرقت العديد من الإتفاقيات الإقليمية لمفهوم حالة الطوارئ، ومنها المادة 27 من الإتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، والمادة 15 من الإتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، والرابط الأساسي في جميع ذلك هو أنه لا يجوز التذرع بتطبيق حالة الطوارئ للإفلات من الإلتزامات الأخرى المرتبطة بالقانون الدولي لحقوق الإنسان.
الحق في الصحة وحقوق المصابين بفايروس كرونا
كفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية الحق في الصحة. فقد نص الإعلان على الحق في الحصول على الرعاية الصحية، والحق في الحصول على المعلومات وحظر التمييز بما يشمل التمييز في تقديم الخدمات الطبية. وبموجب الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2030، على الدول “ضمان حياة صحية وتعزيز الرفاه للجميع من جميع الأعمار”.
وفي ضوء ذلك، اتخذت العديد من الدول إجراءات للحد من انتشار الوباء، مثل الحجر الصحي، وفحص القادمين عبر المطارات والمعابر الحدودية، بالإضافة لنشر التوعية الصحية عن كيفية الحماية من انتقال العدوى بين الأفراد، وغيرها من الإجراءات الوقائية.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أن تقاعس الدولة عن توفير الحماية الكافية للأفراد من الأضرار التي يمكن الوقاية منها أو الآثار المتعلقة بالوباء، يمثل -في تقديري- انتهاكا لحقوق الإنسان. وهذا يعني أن الدول التي تعاملت مع الأزمة على مبدأ الإقتصاد ثم حقوق الأفراد، مما تسبب بإرتفاع في أعداد المصابين والضحايا لديها، إنما يترتب عليها مسؤولية وقوع انتهاك لحقوق الإنسان.
وبالحديثِ عن الحق في الصحة، ينبغي التنويه إلى حقوقِ الأشخاص المصابين. وأود هنا أن ألفت النظر إلى أهمية التمييز ما بين الحق في الحصول على المعلومة، وواجبِ الدولةِ في المحافظةُ على سريةِ المعلوماتِ الشخصيةِ للأشخاصِ المصابينَ بفايروس كورونا، حيثُ يعتبرُ نشرُ الأسماءِ والمعلوماتِ الشخصيةِ انتهاكا لحقوقِ الإنسانِ، لما له من أثرٍ سلبيٍّ على المصابين، والذي قد يترتبُ عليهِ “مفهوم الوصمة” بحقِ المصابينَ وعائلاتهم، وقد يفضي إلى التنمرٍ عليهم أو التمييزٍ ضدهم. وهكذا، تبدو معادلة حق الحصول على المعلومة “سلاحا ذو حدين” فيما يخص وباء فايروس كورونا. فمن ناحية، من واجب الدولة المصارحة والمكاشفة فيما يخص أعداد المصابين والإجراءات المتخذة للسيطرة على انتشار الوباء، وفي نفس الوقت مراقبة الدولة لنشر الإشاعات فيما يخص أعداد المرضى، أو نشر معلوماتهم الشخصية دون ضرورة.
واجب الدولة لا يتوقف على احترام حقوق الإنسان، بل يمتد ليشمل كفالة حماية الأشخاص والمجموعات من انتهاكات حقوق الإنسان
المسألة الأخيرة التي يبقى أن أشير إليها هنا، هي أن واجب الدولة لا يتوقف على احترام حقوق الإنسان، بل يمتد ليشمل كفالة حماية الأشخاص والمجموعات من انتهاكات حقوق الإنسان. ومثال ذلك ضمان احترام الكرامة الإنسانية، بما يشمل حق الدفن للأشخاص المتوفين بسبب المرض بكرامة، وحماية المرضى والمواطنين الأجانب -ولا سيما من دول شرق آسيا والصين- من التنمر الذي يمارس عليهم، وضمان منع خطاب الكراهية والخطاب القائم على التمييز العنصري.
الأثر الإقتصادي للأزمة والحق في العمل
يترتبُ على الأزمةِ أثرٌ اقتصاديٌ كبيرٌ على العمال في القطاعات المتنوعة، حيثُ بدأ عددٌ كبيرٌ منَ العمالِ حولِ العالمِ بخسارةِ عملهم نتيجةَ الانعكاساتِ السلبيةِ للأزمةِ على الشركاتِ واقتصاداتِ الدول، وذلكَ حسبَ التوقعاتِ المبدئيةِ لمنظمةِ العملِ الدوليةِ التي أشارت إلى أنَ ما يقربُ من 25 مليونَ موظفٍ سيفقدونَ وظائفهم بسبب تفشي فايروس كورونا، بالإضافةِ إلى بَدءِ عددٍ كبيرٍ من العمال بالمطالبةِ بحقوقِهم المتمثلة بالأجرِ والحمايةِ منَ الفصلِ التعسفي. و يعتبرُ العمالُ في سوقِ العملِ غيرِ المنتظم (عمال المياومة) الأكثرَ تأثرا بسببِ تبعاتِ الأزمة.
تجدرُ الإشارةُ هنا إلى أنَ من واجبِ الدولةِ حماية حقوقِ العمال، و تقديمُ الحمايةِ الاجتماعيةِ التي نصَ عليها الإعلانُ العالميُ لحقوقِ الإنسانِ في المادةِ 22 “لكلِ شخصٍ بصفتهِ عضوا في المجتمع الحقُ في الحمايةِ الاجتماعية”. على الدولةِ أن تقومَ باتخاذِ التدابير اللازمةَ لمعالجةِ التداعياتِ الاقتصاديةِ بسبب الوباء، كحمايةِ العمالِ من تغوّلِ أربابِ العملِ على حقوقهم، من خلال إيجاد آلية واضحة لتحصيل الأجور خلال فترة الانقطاع عن العمل أو العمل عن بعد، بالإضافة لمتابعة الشكاوى العمالية والعمل على تسجيلها إلكترونيا لكي يتسنى للعمال تحصيل الحقوق الخاصة بهم عبرَ آلياتِ التقاضي المحلية، وإجراءِ دراساتٍ للقطاعاتِ المتضررةِ ودعمها للمحافظةِ على حقوقِ العمال، وإنشاءِ صندوقٍ للطورائ، وتقديمِ قروضٍ بنسبةِ فائدةٍ منخفضةٍ لتمكينِ الفئاتِ المتضررةِ من مواجهةِ تداعياتِ الأزمة.
في الاتجاه الأخر، هنالكَ تأثيرٌ مباشرٌ للوباءِ على شكلِ وبيئةِ العمل، من خلالِ تغيّرِ الفكرِ السائدِ عن تواجدِ الأشخاصِ في مكانٍ واحدٍ للقيامِ بواجباتهم الوظيفيةِ، إلى الإنتقالِ للعملِ عن بعد من خلالِ استخدامِ التكنولوجيا، و ما يترتبُ على الشكلِ الجديدِ للعملِ من حاجةٍ لتعديلِ القوانين لتتوائمَ معَ بيئةِ العملِ الجديدة.
العالم ما بعد الكورونا، وحقوق الإنسان
يعتبرُ “العالم ما بعدَ الأزمة” تغيّرا قادما لا محالة، و أصبحَ الفرارُ من موجاتِ التغيّرِ القادمةِ أمرا مستحيلا. و بالحديثِ عن ارتباطِ أزمة “كورونا” بحقوقِ الإنسانِ فإنه يتوجبُ الإشارةُ إلى دورِ هيئاتِ الأممِ المتحدة المستقبليِّ خصوصا معَ بروزِ أهمية دور الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية كجهة تنسيقية على مستوى العالم، كون الأزمة مثلت جائحة اخترقت دول العالم كلها، وهو ما يعزز أهمية التضامن العالمي ودور الأمم المتحدة كلاعبٍ أساسيٍّ في إدارةِ الأزمةِ، وما ترتبَ عليه من زيادةِ ثقةِ الأفرادِ بها لما لها من مصداقيةٍ ودورٍ تنسيقيٍّ وإشرافيٍّ في إدارةِ الأزمةِ على المستوى العالمي، وهو ما سيكونُ له انعكاس مباشر على دورِ هيئاتِ الأممِ المتحدةِ كأطرافٍ أساسيةٍ في إدارةِ المشهدِ الدولي بشكلٍ أكثر فاعلية، بحكم الحاجة للتنسيق عالميا لمواجهة هذه الجائحة التي اجتاحت كل الدول، وهو أيضاً ما يوجب التذكيرُ بمسؤولية ودورِ هذهِ الهيئات بالعملِ على تعزيزِ وحمايةِ حقوقِ الإنسان في أوقات الأزمات، وتوجيه الدول لحدود التغول “المسموح به” على حقوق الإنسان في مثل هذه الأوقات.
لا تتحمل فيستو أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء منظمة فيستو. تتعهد فيستو بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.