لعبت الحركات الاجتماعية في القرن الماضي أدوارا محورية وهامة محلياً و دولياً، واستطاعت التأثير على السياسات والقوانين وحتى أشكال الأنظمة السياسية.
وقد طوّرت العلوم السياسية وعلم الاجتماع مجموعة متنوعة من النظريات والأبحاث التجريبية حول الحركات الاجتماعية. ففي سبعينيات القرن الماضي، نشأت نظرية تعبئة الموارد (Resource Mobilization Theory) كنقد لمن اعتبروا أن الحركات الاجتماعية ناشئة عن ظروف عدم التنظيم الاجتماعي وأن الفاعلين فيها هم المحرومون والمهمشون. تجادل نظرية تعبئة الموارد بـأن الحركات الاجتماعية حتى تنجح فإنها يجب أن تحصل على الموارد اللازمة التي تضمن تنظيمها واستمرارها ونشر أفكارها. ومن أهم هذه الموارد المال والكوادر والمهارات والتحالفات مع الفئات والنخب الأخرى، وعامل آخر ذات صلة بالمقالة هو وسائل الاتصال والتواصل التقليدية والحديثة (John & Mayer, 2017).
تجادل هذه المقالة في أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تسريع التعبئة والحشد في الحركات الاجتماعية، إلا أنها في نفس الوقت غيرت من الهوية الجماعية ودور القيادات في الحركات الاجتماعية.
استبدال الشبكات الاجتماعية والفضاء العام بوسائل التواصل الاجتماعي
إذا أردنا تعريف الشبكات الاجتماعية بشكل مبسط، فهي أدوات للوصول والتأثير في المجال العام. وحسب الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس فالمجال العام يتكون من مجموعة من المواطنين يجتمعون لمناقشة قضايا عامة ومتنوعة، ومنصات النقاش تكون كالمقاهي والجامعات والأماكن العامة والنوادي وغيرها (Habermas, Burger, & Lawrence, 2001). مع ظهور وسائل الإعلام التقليدية كالتلفاز والراديو، تغير شكل التفاعلات المتبادلة الفردية والجماعية بنموذج آخر أُحادى الإتجاه. بمعنى أصبحت المعلومات تتدفق من الأعلى ومن خلال المُمسك بوسائل الإعلام، وهذا أضعف مشاركة المجتمع والحركات الاجتماعية في الحوار ونقاش القضايا المختلفة، وجعلها تستند للشبكات الاجتماعية لمواجهة تأثير المنظومات الإعلامية التابعة للسلطة في المجال العام (مصدر سابق).
حلت وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية محل هياكل التعبئة القديمة، وأصبحت أداة التنسيق الجديدة لجميع الحركات الاجتماعية في العالم تقريبًا في السنوات الأخيرة
ظهور الإنترنت في التسعينيات شكل نقطة تحول في التواصل بين الأفراد. وزاد عدد المتصلين بشبكات الإنترنت ليصل إلى مليارات من المستخدمين. هذا التطور النوعي في وسائل الاتصال أثر بشكل كبير على تعبئة الموارد لدى الحركات الاجتماعية، وأعاد شكل علاقتها مع الفضاء العام، وشكل تدفق المعلومات منها وإليها. فقد أصبح هناك تحول كبير في هيكليات الشبكات الاجتماعية. وقد حلت وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية محل هياكل التعبئة القديمة، وأصبحت أداة التنسيق الجديدة لجميع الحركات الاجتماعية في العالم تقريبًا في السنوات الأخيرة (Shirky, 2011).
لوسائل التواصل الاجتماعي نوعان من التأثير على الحركات الاجتماعية. الأول زيادة سرعة الحشد والتعبئة ونقل المعلومات والاتصالات، والثاني هو التوسع في أماكن التعبئة والتي كانت غير موجودة في تقنيات التعبئة التقليدية (Eltantawy & Wiest, 2011, pp 1209-1210). فبإمكان الحركات الاجتماعية الوصول من خلال الفيسبوك وتويتر إلى ملايين الأشخاص داخل الدولة وخارجها. يساعد الانتشار السريع للمعلومات في التحقق من صحة المعلومات وتوسيع نطاقها. و تجاوز تحيز إعلام الأنظمة. وإعطاء قدرة للحركات الاجتماعية في رواية الأحداث لصالحهم وخلق التعاطف مع مطالبهم (Clark, 2012). وتعتبر الثورات والاحتجاجات التي اندلعت في الشرق الاوسط وشمال إفريقيا منذ عام 2010 من الأمثلة على دور الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعية التي مكنت المحتجين من تخطي الرقابة الحكومية للتواصل مع عامة الناس.
التأثير الثاني لمواقع التواصل الاجتماعي أنها أدت إلى تغييرات جوهرية في العمليات والتكتيكات التي تٌحفز المشاركة والتنظيم. على عكس ما كان يميز الحركات الاجتماعية سابقا، التي كانت تنظم فعالياتها من خلال اجتماعات جسدية، ونقل المعلومات والتوجيهات من خلال العنصر البشري، والتي كانت تأخذ وقتا وجهدا كبيرين، ويكون نطاق التأثير مرتبط بقدرة الحركة في التحرك على الميدان (Earl & Kimport, 2013).
مواقع التواصل الاجتماعي والهويات الجماعية
بالإضافة إلى كون وسائل التواصل الاجتماعي أداة لنشر المعلومات وتنسيق النشاطات، فهي تمثل منصة عاطفية لتطوير الهوية ومشاركة العواطف وبناء شعور جماعي (Wolfson & Funke, P, 2017). وقد عززت وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة نوعًا جديدًا من الهوية الجماعية الافتراضية (Earl & Kimport, 2013).
تاريخيا شكلت المظاهرات السلمية أو العنيفة إحدى وسائل الحركات الاجتماعية للتعبير والتغيير. وينخرط في هذه المظاهر الاحتجاجية بشكل مركزي عناصر وأفراد الحركات الاحتجاجية أصحاب الهويات والأيدولوجيات المشتركة، وبقدر زيادة المشترك بين هوية الحركة الاجتماعية والمجتمع بقدر ما يزيد انخراط أفراد المجتمع بمظاهر الاحتجاج. يرى كل من سوين هاتر وهانسبيتر كراي أنه في السنوات الأخيرة ابتعد أفراد المجتمع عن المشاركة في أشكال الاحتجاجات والتعبيرات السياسية التقليدية. وأن الاحتجاجات في كثير من الأحيان أقل استنادًا إلى الهوية وأكثر استنادًا إلى قضايا محددة. وهذا ما تعزز مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي (Hutter and Kriesi, 2013).
وفرت وسائل التواصل الاجتماعي منصات لمنظمات وأفراد متباينون أيديولوجيًا، يمكن أن تتوحد مطالبهم في قضايا محددة، ليشكلوا ما يسمى “تحالفات الأحداث”
وبناء على التشكيلات الهوياتية والأيدولوجية يبرز نوعان رئيسيان لأشكال الاحتجاجات، فهناك احتجاجات تكون لاعتبارات ومصالح الحركات الاجتماعية ذاتها، حتى لو أن هذه الحركات ادّعت أنها تهدف لتحقيق مصلحة المجتمع. النوع الثاني هو الاحتجاجات التي تعبر عن مصالح أكبر قدر ممكن من الحركات الاجتماعية والفئات الاجتماعية المتنوعة.
عززت وسائل التواصل الاجتماعي النوع الثاني من الاحتجاجات، حيث وفرت منصات لمنظمات وأفراد متباينون أيديولوجيًا، يمكن أن تتوحد مطالبهم في قضايا محددة، ليشكلوا ما يسمى “تحالفات الأحداث” (Whittier, 2014)، التي تركز على هدف مشترك. وتتلاقى تحالفات الأحداث حول إجراءات أو تكتيكات معينة. تنتهي مع انتهاء الحدث (مصدر سابق).
مواقع التواصل الاجتماعي وتشكل القيادات والفاعلين في الحركات الاجتماعية
تاريخيا لعبت القيادات أدوارا هامة في الاتصال والتواصل والتعبئة والحشد. واستثمرت الحركات الاجتماعية في تنمية المهارات القيادية كإحدى الآليات الرئيسية لتحويل الموارد الفردية إلى قوة جماعية تحقق أهداف الحركات الاجتماعية. و تعد القيادة أمرًا هاما لفعالية الحركة على المستويات الفردية والمجتمعية والمؤسسية.
ومن الأمثلة في التاريخ الحديث على دور القيادات في الحركات الاجتماعية، إيمانويل بانكهيرست (Emmeline Pankhurst) مؤسسة رابطة حقوق الامتياز النسائية (The Women’s Franchise League)، عام 1889 في إنجلترا. أظهرت بانكهيرست خصائص قيادية فريدة، واستطاعت أن تؤثر على العديد من القطاعات النسوية وتغير قناعاتهم حول حقوقهن. وقادت احتجاجات واسعة طالبت بإعطاء المرأة الحق في التصويت التي كانت محرومة منه. وبعد سلسلة من النضالات والاحتجاجات انتزعت المرأة البريطانية قانونا يمنحها حق التصويت عام 1928.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية أسس مارتن لوثر كينغ والذي كان يتمتع بقيادة “سحرية” “حركة الحقوق المدنية” والتي قادت احتجاجاتها السلمية عام 1955، من أجل حصول السود الأميركيين على حقوقهم السياسية والمدنية في الولايات المتحدة الأمريكية.
تبدأ الحركات الاجتماعية من قبل مجموعة من الممثلين والقيادات الذين هم الضحايا الرئيسيون أو أصحاب الأفكار المناوئة لأنظمة الحكم. و تلعب هذه القيادات دورًا قياديًا طوال دورة حياة الحركة لتحقيق أهدافها، ويطلق على هذا النوع من القيادات ممثلو الحركة الاجتماعية الرئيسية (Key Social Movement Actors) (Andrews, 2002, p.114). خلال فترة الأقل نشاطًا في الحركة، تظل القيادات الرئيسية نشطة لتعميم المعلومات والمواقف والتفاعل مع بعضها البعض للحفاظ على استمرار الحركة، ويظلون نشطين حتى النهاية (المصدر السابق).
قللت وسائل التواصل الاجتماعي من أهمية وجود قيادات كارزمية ومركزية في الحركات الاجتماعية. فقد سهلت التعبئة من خلال منصات تقنية متنوعة، وخففت من أثار غياب قيادات كاريزمية رغم ضرورتها (Poell, Abdulla, Rieder, Woltering, & Zack, 2015, pp. 995-996)). وأصبحت الحركات الاجتماعية تعتمد على مستويات متنوعة من القيادات والنشطاء في نقل رسائلها وأفكارها، أو التضامن معها في بعض الحملات.
أثرت وسائل التواصل الاجتماعي على دور القيادات في الاحتجاجات الجماهيرية التي اندلعت في العشر سنين الأخيرة في مناطق مختلفة وخاصة في المنطقة العربية. واشتركت هذه الاحتجاجات في خصائص مهمة. وهي أنها احتجاجات بلا قادة، و لا يتم تحديد تنظيم ومبادئ الاحتجاجات في لوائح تنظيمية صاغتها اللجان المركزية، وإنما على وسائل التواصل الاجتماعي. وتعد قوة حشد وسائل التواصل الاجتماعي عاملاً حاسماً في الحركات التي لا يقودها أحد. وفي نفس الوقت. الحركات الجماهيرية التي لا تخضع لقيادة تدعي تمثيل “إرادة الشعب” قد لا تتوافق فيما بينها، مما يصعب التفاوض معها ويسهل قمعها.
وسائل التواصل الاجتماعي بطبيعتها عززت اللامركزية على حساب المركزية، والشبكات التقنية على حساب الهيكلية الهرمية، والنشطاء الذين لهم متابعون كثر في وسائل التواصل الاجتماعي على حساب الخبراء.
فلكي لا تفقد القيادات التنظيمية المركزية قدرتها على التواصل مع الناس، عليها أن تؤقلم نفسها مع التطور الحاصل في التواصل عبر الإنترنت، وإلا فإن نشطاء الانترنت سيحلون مكانهم في التأثير والتواصل. لكن ذلك لا يغني عن بعض الرسائل القوية التي يتردد صداها لدى الجمهور، وكذلك دور القيادات في إدارة الحركة أو التنظيم والارتباط به عضويا لضمان استمراريته.
الملخص
وسائل التواصل الاجتماعي مثلت فرصة للباحثين في مجال الحركات الاجتماعية لدراسة تقنيات التواصل الحديثة وتأثيرها على تكتيكات وخيارات الحركات الاجتماعية . فقد لعبت تقنيات الإعلام الجديدة دورًا حيويًا في الموجة الأخيرة من الاحتجاجات والثورات في العالم. وتوفر وسائل التواصل الاجتماعي بيئة وسائط تشاركية تجعل منها أداة حشد وتعبئة فعالة للحركات الاجتماعية. وهذا ساهم في حضور الحركات الاجتماعية في المجال العام. لكن في المقابل. فقد أعطت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً فعالاً للنشطاء والقيادات الوسيطة، على حساب القيادات المركزية في الحركات الاجتماعية.
لقد مثلت وسائل التواصل الاجتماعي فرصة للحركات الاجتماعية للترويج لأفكارها بطريقة عقلانية، حيث أن من مصلحتها الترويج لمطالبها بحيث تراعي الهوية الجماعية على حساب هوية المجموعة نفسها. وبقدر تقاطع مطالب الحركات الاجتماعية وانسجامها مع الهوية الجماعية، بقدر ما يشارك أكبر قدر من أفراد المجتمع في الاحتجاجات والحملات لتحقيق هذه المطالب.
الكلمات المفتاحية: الحركات الاجتماعية، وسائل التواصل الاجتماعي، تعبئة الموارد، الهوية الجماعية، الرأي العام.
المراجع
Andrews, K. (2002). Creating Social Change: Lessons from the Civil Rights Movement. In Meyer, D; Whittier, N; Robnett, B (Eds.), Social Movements: Identity, Culture, and the State (pp. 105–117). New York: Oxford University Press.
Clark, E. (2012). Social Media & Social Movements: A qualitative study of Occupy Wall Street. Södertörn University.
Curtis, R. L., & Aguirre, B. E. (1993). Collective behavior and social movements. Boston: Allyn and Bacon.
Earl, J., & Kimport, K. (2013). Digitally enabled social change: activism in the internet age. S.L.: Mit Press.
Eltantawy, N., & Wiest, J. B. (2007). The Arab Spring| Social Media in the Egyptian Revolution: Reconsidering Resource Mobilization Theory. Journal of Communication, 5, 1207–1224.
Habermas, J., Burger, T., & Lawrence, F. (2001). The structural transformation of the public sphere: an inquiry into a category of bourgeois society. Cambridge (Mass.): MIT.
Hutter, S., & Kriesi, H. (2013). Movements of the Left, Movements of the Right Reconsidered. In Stekelenburg, J; Roggeband, C; Klandermans, B (Eds), The future of social movement research. Dynamics, mechanisms, and processes. Minneapolis, MN: University of Minnesota Press.
John, D. M., & Mayer, N. Z. (2017). Resource Mobilization and Social Movements: A Partial Theory. Social Movements in an Organizational Society, 15–42. doi: 10.4324/9781315129648-1
Poell, T., Abdulla, R., Rieder, B., Woltering, R., & Zack, L. (2015). Protest leadership in the age of social media. Information, Communication & Society, 19(7), 994–1014. doi: 10.1080/1369118x.2015.1088049
Shirky, C. (2011). The political power of social media: Technology, the public sphere, and political change. Foreign Affairs, 90(1), 28-41.
Whittier, N. (2014). Rethinking coalitions: anti-pornography feminists, conservatives, and relationships between collaborative adversarial movements. Social Problems 61, 175–193. doi: 10.1525/sp.2014.12151
Wolfson, T., & N. Funke, P. (2017). Contemporary Social Movements and Media: The Emergent Nomadic Political Logic and Its Nervous System. In Smith, J; Goodhart, M; Manning, P; Markoff, J (Eds.), Social Movements and World-System Transformation (pp. 76–93). New York: Routledge.
لا تتحمل فيستو أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء منظمة فيستو. تتعهد فيستو بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.