يشهد الشرق الأوسط مؤخراً ازدحاماً في مشاريع الإسلام السياسي السنّي التي تأتي ضمن التسابق المحموم بين عدد من الدول العربية على قيادة هذه الرقعة الجغرافية. بعد أكثر من 1400 عام على ظهور الإسلام، بات هذا الدين جزء أساسي من هوية المنطقة وأهلها، ومن الصعب على أي حاكم تجاهله، مهما كان توجهه السياسي.
ومنذ قيام الدولة السعودية الثالثة عام 1902م، أولى الملوك المتعاقبين على حكم المملكة الأهمية الكبيرة للإسلام، وصدّرت السعودية نفسها كراعية للإسلام باعتبارها حاضنة لأهم الأماكن الإسلامية المقدسة.
ومع تولي محمد بن سلمان منصب ولاية العهد، باشر بإعادة تشكيل المرتكزات الثلاثة للعقد الاجتماعي السعودي. وهي حكم العائلة التي تتقاسم السلطات الموزعة سواء في قطاع الثروة أو إدارة الدولة، من خلال كسب الأمراء الموالين له، وإزاحة الأمراء المنافسين من طريقه للحكم. العقد الثاني هو الاقتصاد الريعي. وقد شهد الاقتصاد السعودي مؤخرا تحولات في السياسات الاقتصادية والتي تأثر بها المواطن السعودي. وأخيراً تأكيد التحالف مع التيار الديني الذي أسسه محمد بن عبد الوهاب، والذي تحالف مع الملك محمد بن سعود في تأسيس الدولة السعودية الأولى.
سيناقش هذا المقال التحولات في علاقة النظام السعودي مع التيار الوهابي في ظل ولاية عهد الأمير محمد بن سلمان.
رفض الوهابية والتمسك بمحمد بن عبد الوهاب
باتت الوهابية تكلّف السعودية كثيراً على ثلاثة مستويات، الأول هو الضغط المتصاعد بين أواسط الشباب المتذمرين من صلاحيات الشرطة الدينية أو ما يعرف بجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد سبق الشباب بقية فئات المجتمع بالانفتاح على العالم بجهد رسمي أو شبه رسمي، فقد بلغ عدد المُبتعثين السعوديين للدراسة في جامعات خارج المملكة خلال الفترة (2005-2015) نحو 217.6 ألف مبتعث، بتكلفة بلغت نحو 59 مليار ريال(قرابة 16 مليار دولار). وجزء منهم قضوا سنوات دراستهم في دول ليبرالية، تحترم الحريات الشخصية والعامة وذات نظم ديمقراطية. وقبل ذلك فقد عايش الشباب السعودي فترة طفولته أو مراهقته افتتاح قناة (ام بي سي2)، التي شكّلت واحدة من أهم القنوات الترفيهية التي ساهمت في تشيكل تصوره وخياله عن الغرب.
تطبيق ما يعتبره النظام السعودي أحكام الشريعة أو إقامة الحدود لم يشفع له عن اتهامه من قبل الحركات المتطرفة بـ “العمالة والخيانة والتبعية للغرب”
المستوى الثاني هو الاستنزاف الذي أحدثته الحركات الجهادية العالمية في الشرعية الدينية للنظام السعودي، فتطبيق ما يعتبره النظام السعودي أحكام الشريعة أو إقامة الحدود لم يشفع له عن اتهامه من قبل الحركات المتطرفة بـ “العمالة والخيانة والتبعية للغرب”. الأمر الذي أدى إلى انضمام أعداد كبيرة من السعوديين للتنظيمات الارهابية، و تتضارب الأرقام حول عددهم. وقد كانت السعودية مسرحاً لعمليات الحركات المتطرفة أبرزها تفجير العليا عام 1995، ووصل عدد العمليات التي نفّذها تنظيم داعش ضد السعودية إلى 22 عملية في 5 سنوات، وفاقت كلفة احتواء العنف في السعودية 165 مليار دولار أمريكي لعام 2014.
المستوى الثالث هو الانتقاد الدولي الواسع للسعودية على خلفية انتشار التطرف وتأثيره على العالم أجمع، حيث لاتزال المحاكم الأمريكية تنظر في دعاوى مقدمة ضد السعودية من أهالي ضحايا أحداث 11 سبتمبر، تلك الدعاوى التي جرت عبر ما يسمى بقانون جاستا أو “العدالة ضد رعاة الإرهاب”. وتم إدراج السعودية على قائمة الاتحاد الأوروبي للدول المتهاونة مع تمويل الإرهاب وغسل الأموال.
لم ينكر ابن سلمان دور السعودية في نشر الوهابية، لكنّه أعاد حزمة الانتقادات إلى حضن الغرب حين صرّح بأن نشر الوهابية جاء كجزء من مواجهة تقدّم الاتحاد السوفييتي
لم تكن مهمة تقليم أظافر السلطة الدينية سابقاً سهلة، و تعرضت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لانتقادات من أوساط سعودية مختلفة. بسبب انتهاكها للحقوق الفردية. واستطاع ابن سلمان وهو في منصب ولي ولي العهد أن يشكل تنظيم جديد للهيئة يحد من صلاحياتها التنفيذية، ويجعلها مقتصرة على التبليغ عن المخالفات التي ترصدها للجهات المعنية. ولم تعترض هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على تقييد صلاحياتها. وبالعكس التزمت الصمت على الحفلات الموسيقية التي كانت ممنوعة قبل صعود بن سلمان لمنصبه .
وعلى صعيد الخطاب الدولي لم ينكر ابن سلمان دور السعودية في نشر الوهابية، لكنّه أعاد حزمة الانتقادات إلى حضن الغرب حين صرّح بأن نشر الوهابية جاء كجزء من مواجهة تقدّم الاتحاد السوفييتي في دول العالم الإسلامي أبّان الحرب الباردة، وبناءاً على طلب من دول حليفة للسعودية.
وفي حين يرفض النظام الرسمي السعودي تسميته بالوهابية أو ربطه بالسلفية، إلا أنه لا يتنازل عن محمد بن عبد الوهاب ومبادئه. واعتبر المستشار في الديوان الملكي الشيخ عبدالله المنيع أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رجل تقي صالح مجاهد دعا الى ما كان عليه الرسول، وكان متبعاً النهج السلفي الصحيح الذي نادى به النبي.
الدين مبرراً للانفتاح
على الرغم من الرغبة البادية من ابن سلمان بتقييد السلطة الدينية وهيمنتها على المجتمع، إلاّ أن هناك مجموعة من التحديات التي يمكن أن يواجهها، أولها إدراك السعودية لعدم القدرة على استعداء الحركات الدينية الموالية للنظام. لكي لا تنشأ حركات داخل السعودية تؤمن بتكفير العائلة الحاكمة، كما حدث في سبعينيات القرن الماضي حين ظهرت الجماعة السلفية المحتسبة، والتي قادت حادثة احتلال الحرم المكي على يد القيادي في الجماعة جهيمان العتيبي.
أما السبب الثاني فهو النفوذ السياسي والدخل الاقتصادي الذي يوفره احتضان السعودية للحرمين الشريفين، و بمعزل عن كونها أكبر مخزن للطاقة، تعتبر السعودية وجهة المسلمين لمناسك الحج والعمرة، اللذان يدرانّ عليها ما يقارب الـ12 مليار دولار سنوياً، وهذا كان محل اهتمام رؤية 2030 من خلال “برنامج خدمة ضيوف الرحمن” الهادف إلى تطوير خدمات الحج والعمرة لزيادة عدد المعتمرين، الأمر الذي قد يتأثر في حال خُدشت صورة السعودية كراعية للإسلام.
نظام الحكم في السعودية يحتاج التيارات الدينية القادرة على منح الشرعية لأي مشروع انفتاح يقوده الأمير ابن سلمان، كثيرة هي الفتاوى الصادرة عن شيوخ موالين لنظام الحكم، حذّروا فيها الخروج عن الحاكم. وقد اعتبر وزير الشؤون الإسلامية عبد العزيز آل الشيخ أن رؤية 2030 صدرت وفق مراسيم منظمة له، بحيث لا يتصادم مع ثوابت الدين ولا مع عادات وتقاليد المجتمع.
مشروع جديد بدون تجديد
الإسلام السعودي كما يرسمه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مقابلته مع مجلة ذي أتلانتيك هو إسلام تعددي. متقبل للمكون الشيعي في مختلف مؤسسات المملكة على أساس المواطنة، يعمل على نشر الإسلام بالكلمة لا بالقتال، يتم تطبيق تعاليمه في ظل دولة تتماشى مع قيم الدول الحديثة والنظام العالمي المعاصر، أساسه أمرين فقط وهما الإيمان والقيام بأشياء جيدة.
ويحاول ابن سلمان في ذات المقابلة شرح المشروع الإسلامي الجديد عبر شرح أعدائه، حيث أنه في صراع مباشر مع ما وصفه بمحور الشر وهو “الإخوان المسلمين والجماعات الجهاديّة السنية والنظام الإيراني”، أي أنه ليس مشروعاً توسعياً ورافضاً لمبدأ الخلافة الإسلامية. كما أنه يواجه تأثير حالة التشدد التي تعرض لها المجتمع السعودي، أي أنه أكثر انفتاحاً في قضايا حقوق المرأة والثقافة طالما لم تمثّل هذه الثقافة خروجاً على قيم الإسلام أو المجتمع الأساسية.
الملاحظ أن تصور ابن سلمان لشكل الإسلام يتقاطع بشكل كبير مع ما طرحه مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنّا في مقالته “السلام في الإسلام” المنشورة عام 1947. ولا يختلف عن طرح التيار الإصلاحي السعودي الذي بات أغلب قياداته في السجون.
ختاما
من الصعب أن يغيّر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أصل الاتفاق الذي تأسست عليه المملكة العربية السعودية. وأن يتم انهاء سلطة رجال الدين على المجتمع والثقافة. فنظام الحكم السعودي مليء بالرمزيات الدينية، ابتداءً نص نظام الحكم الأساسي الذي ينص على أن دستور الدولة هو “كتاب الله وسنّة رسوله”. مروراً بالعلم الذي يحمل الشهادتين وليس انتهاءاً في لقب خادم الحرمين الشريفين. حتى أن التوافق على الحكم يجب أن يكون بالبيعة، كما يعتبر النظام الأساسي أن حماية عقيدة الإسلام وتطبيق شريعته أحد واجبات الدولة. والأهم أن الحكم في السعودية يستمد شرعيته بشكل كبير من خلال التيار الديني الحليف التاريخي لآل سعود.
لا تتحمل فيستو أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء منظمة فيستو. تتعهد فيستو بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.