أزمة الإسلاموفوبيا في أوروبا : قراءة على ضوء مفاهيم معاداة السامية و الاستعمار وقيم الحرية والعلمانية
شهدت الساحة الأوروبية مؤخراً انتشاراً واسعاً لظاهرة الإسلاموفوبيا، وذلك بالتزامن مع صعود اليمين المتطرف في كثير من دول الإتحاد الأوروبي على مدار السنوات القليلة الماضية. وعلى الرغم من أن ظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا ليست وليدة اللحظة، إلا أنها انتقلت بوتيرة سريعة من خطاب فئة محددة، إلى مستويات رسمية و أحزاب حاكمة أو أحزاب تشكّل ثقلاً معتبراً في الأنظمة السياسية الأوروبية.
يناقش هذا المقال ظاهرة الإسلاموفوبيا ويضعها في إطار سياقي مع ظاهرة معاداة السامية، ورغم أن الظاهرتين تأتيان ضمن سياقات تاريخية وسياسية ومجتمعية مختلفة، إلا أنهما، كما سنبين في هذا المقال، تشتركان في المنطلقات والآثار، خصوصا أن مفهوم “معاداة السامية” شكّل وما زال يشكّل دوراً بارزاً في محاكمة القوميات الأوروبية المعاصرة للعديد من القضايا السياسية والاجتماعية، وذلك في ظل الانفتاح الهائل الذي صاحب العولمة وحقبة ما بعد الاستعمار من هجرات جماعية ونشاط المجتمعات المدنية وخاصة الحقوقية، مما كان له أثر بطبيعة الحال على ظاهرة الإسلاموفوبيا اليوم.
وفي سياق متصل، يناقش هذا المقال العلاقة بين مبدأي حرية التعبير وحرية التدين، وعلاقتهما المباشرة مع مبدأي الديمقراطية والعلمانية في أوروبا، بحيث يحاول سبر أغوار حقيقة الإشكالية، وهل هي إشكالية قانونية-حقوقية، أم أنها سياسية-هوياتية، لا سيما مع الاختلاف القائم اليوم بين دول ترى في سياساتها اتجاه الجاليات المسلمة توافقاً مع مبادئ حرية التعبير والعلمانية والديمقراطية، فيما تراه أوساط أخرى كخرق واضح لمبادئ حرية التعبير.
الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية: مقاربات ومفارقات
نشأت ظاهرتا الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية في سياقات مجتمعية تضم ثقافات متعددة، في ظل سعي الثقافة الأوروبية المستضيفة الحفاظ على سيطرتها و”نقائها” من الآخر، بحيث تبدو معركة حصار هذا الآخر مسألة بقاء ملحة للمجتمع المهيمن. وقد ناقش عدد من المفكرين هاتين الظاهرتين باعتبارهما تأتيان في سياق صراع الحضارات، ومنهم إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”؛ حيث أشار سعيد في مقدمة كتابه للمحددات التي تعرّف الاستشراق، موضحاً أن هذا المصطلح “يعتمد على رؤية الغرب الاستعلائية للشرق المختَلِف، والتي تمنحه إمكانية لإقامة سلسلة من العلاقات لا يفقد خلالها يده العليا.”[1]
وفي هذا السياق، يلاحظ أن بعض التيارات اليمينية في أوروبا تعتبر خصومتها مع الإسلام كدين لا المسلمين كأفراد، مثل المتطرف الهولندي خيرت فيلدرز (Greet Wilders). وهذا التوصيف ليس بجديد، ففي عام 1997 عرف صندوق رانيميد الإستئماني البريطاني Runnymede Trust Fund ظاهرة الإسلاموفوبيا بأنها “الرهبة أو الكراهية للإسلام، وبالتالي الخوف والكراهية لجميع المسلمين”[2]
ولقد أشارت بعض الدراسات إلى أن الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية كلتاهما ظاهرتان قائمتان على تسيّد العرق على الأفراد المنتمين لليهودية أو الإسلام بصفتهم مهاجرين أو أغراب، أو في أقله متمايزين ثقافياً.[3] فقد رأى إنزو ترافرسو Enzo Traverso، أستاذ الإنسانيات المقارنة ومؤلف كتاب “نهاية الحداثة اليهودية”، أن كلا الظاهرتين انبثقتا مباشرة من العرق، وهو التصنيف المبني على النظريات البيولوجية، والذي يخلق نوعاً من التناقض الفطري الذي لا يمكن تلافيه مع مجتمعات المسلمين ومن قبلهم اليهود في أوروبا.
ومن الجدير بالذكر هنا، أن عدداً كبيراً من المفكرين، من بينهم حنا أرندت وليون بولياكوف، أشاروا إلى انفصال تاريخي بين معاداة اليهودية anti-Judaism كحركة انتشرت في أوروبا إبان العصور الوسطى، ومعاداة السامية antisemitism المعروفة في أوائل ومنتصف القرن الماضي، والتي تنطوي على تمييز عرقي ضد اليهود كجماعة عرقية، لا كمنتمين إلى دين معين.
وفي الواقع، لعبت التصنيفات الاجتماعية والاقتصادية للمسلمين واليهود على مدار السنوات دوراً مهماً في خلق نوع من الرهاب المجتمعي لدى الأكثرية المهيمنة في المجتمعات الأوروبية، حيث عانت التجمعات المسلمة من الفقر والتهميش وتدني مستوى التعليم، بينما صُنِفت مجتمعات اليهود العاملة في الصيرفة والبنوك والتجارة كمجتمعات تسعى للسيطرة والإثراء على حساب المجتمعات الأوروبية المحلية.
وقد رأى “ترافرسو” أن ظاهرة الإسلاموفوبيا المعاصرة أقرب لمعاداة السامية التي انتشرت في الرايخ الألماني الذي استثنى اليهود بدقة وبشكل مطلق من مؤسسات الدولة، وهو ما يقابل الآن نسبة التمثيل المتدنية للمسلمين في المستويات الرسمية الأوروبية، على عكس يهود الجمهورية الثالثة في فرنسا، والذين غدوا يحتلون مراكز مهمة في البيروقراطية الأوروبية وكان ينظر إليهم كدولة داخل الدولة.
وهكذا، يبدو أن الإسلاموفوبيا تعبّر عن رفض هوياتي تجاه المسلمين في أوروبا، بحيث يتم تسميتهم بالمسلمين في أوروبا بدلاً من مسلمي أوروبا، أي أنهم عنصر دخيل وليسوا جزءاً من النسيج المجتمعي الأوروبي. فحتى المسلمين الذين يحترمون القيم الأساسية لـ”الغربنة،” وهي النظرية المعروفة بـاللاءات الأربعة (من حرف اللام الذي تبدأ به الكلمات الأربعة، وهي: Language, law, loyalty and liberty، أي: معرفة لغة البلاد، واحترام قوانينها، والولاء لمجتمعها، واحترام حرية مواطنيها)، قد يعانون من التمييز.
ورغم التشابه البيّن في منطلقات الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية، كما أسلفنا، إلا أن هناك فروقاً جوهرية بين الظاهرتين، أولهما البُعد الجغرافي للمشكلة؛ فقد عدّت أوروبا اليهود “مشكلة داخلية”، في حين تُعتبر المجتمعات المسلمة اليوم عنصراً خارجياً تسعى الأحزاب اليمينية لطرده لا لإدماجه. كما تؤثر الحقبة الاستعمارية الأوروبية على النظرة التصنيفية والتمييزية بين الأوروبي والمهاجر.
ومما يجعل من الإسلاموفوبيا أكثر انتشارا من معاداة السامية، هو وضوح المحددات المميِزة للمجتمعات المسلمة؛ فاليهود أقرب في أسمائهم للأسماء الأوروبية، ويلبسون اللباس الأوروبي ويتكلمون اللغات الأوروبية (لأنهم بالأصل أوروبيون)، بحيث يصعب تمييزهم دون أن يُسألوا عن هويتهم، بينما العربي المسلم واضح المعالم من اسمه وهندامه ولكنته، ما يجعله عرضة لسهولة وتلقائية التصنيف والفصل، باعتباره “مغايراً”.
ومما يزيد المشهد تعقيدا، هو الممارسات الخطابية، سواء من بعض وسائل الإعلام الغربي أو غيرها، والتي تلعب دورا مهما في خلق الحاجز الثقافي بين المجتمع الغربي والمسلمين، وتعزز ظاهرة الخوف من المسلم، أيّ مسلم. ويمكن الاستناد في فهم هذا السياق إلى المفكر الفرنسي ميشيل فوكو لتحليل ممارسات الخطاب. ففي كتابه “نظام الخطاب”. يعتبر فوكو أن “الخطاب لا يصبح أداة في يد السلطة أو نصا يعكس أهداف السلطة، بل يشكل في ذاته سلطة”. وهنا نلاحظ أن المنطوقات والممارسات الخطابية ذاتها شكّلت خطاباً مرتبطاً بالعداء للإسلام ووضعته في قالب ثابت وجامد، طغت فيه ملامح الشخصية الإسلامية الأكثر تداولاً في السينما والأخبار وبيانات السياسيين خلال الأعوام العشرين الماضية، وهي شخصية الجهادي الذي تصدّر العناوين منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر، وهذا الخطاب تم وراثته من الممارسات الاستعمارية في القرنين الماضيين، والتي تم العمل على تنميط الهوية الإسلامية ووضعها في قالب واحد، حتى تلاشت إمكانية وجود مسلم عادي في الغرب، بل وحتى داخل المجتمعات الإسلامية نفسها أحياناً. وبحسب ماركو بيروليني، الباحث في منظمة العفو الدولية لشؤون أوروبا، فإن مصطلح “التطرف” غالباً ما كان يُستخدم كناية عن “المسلم المتدين”، بهذا التنميط المباشر والأحادي.
المعايير الأوروبية لحرية التعبير وحرية التدين: إشكالية قانونية أم سياسية-هويّاتية؟
تعتبر أوروبا الحرية أساساً لا بد منه، إلا أن الحدود الفاصلة بين حرية التعبير وحرية التدين ظلت إشكالية. فالتدين المرتبط بالبيئة الشخصية الخاصة “ private sphere”يتمتع بحماية قانونية مطلقة، بينما يصبح التدين في النطاق العام “public sphere” عرضة للتنظيم والتقييد الرسمي الذي يتفق وسياسات الدولة.
وترى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في حرية التعبير الحجر الأساس للمجتمعات الديموقراطية وأساس التقدم الفردي والجمعي. وقد نصت معاهدات دولية عديدة على الحق في حرية التعبير، وأبرزها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في مادته ال19، والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في مادتها ال10. وبينما أشارت المادتان إلى حرية التعبير باعتبارها حقاً أصيلاً وثابتاً، فقد نصت كل من الوثيقتين على استثناء ما يُعتبَر حضاً على التمييز الوطني والعرقي والديني من الحق في حرية التعبير.
وبالرغم من إشارة المادة التاسعة من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان، والمادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لحرية التدين و إطلاق الحق في الوجدان الشخصي للفرد، إلا أنهما أتاحتا للدولة تقييد مظاهر التدين في الفضاء العام ضمن عدد من الاستثناءات، بمحددات أهمها أن ينص القانون على تلك الاستثناءات بوضوح، وأن تكون الاستثناءات في حدود الضرورة في ظل مجتمع ديموقراطي، بهدف حماية الأمن العام، والنظام والصحة والأخلاق، وبما يضمن حماية حقوق الآخرين.
وفي تعقيبها على هذه الاستثناءات، توسعت لجنة حقوق الإنسان المختصة بتفسير العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في تفسير ما الذي يمكن اعتباره ضمن حق التدين المحمي بنص المعاهدة. ورأت اللجنة أن الحق بالتدين، المحمي بموجب القانون، لا يقتصر على الحق في الممارسات الشعائرية من صلوات ورموز ودور عبادة، ولكنه يمتد إلى حماية أثر الدين في الحياة الشخصية للمتدين، من لباس ولغة ومؤسسات تعليمية ذات طابع ديني وعادات متصلة بالعرف الديني. وعلى الرغم من القيمة الاسترشادية التي تحملها تعليقات اللجنة المذكورة أعلاه، إلا أن هذه التعليقات والشروحات تبقى تفسيرية ولا تملك صبغة إلزامية على الدول.
وقد تضمنت العديد من الدساتير الأوروبية مبادئ حرية التعبير والتدين في ظل مجتمع ديموقراطي تعد العلمانية أهم مقوماته[4]، وجاء الدستور الفرنسي لعام 1958 ضامناً لحق المواطنين بصرف النظر عن عرقهم وأصلهم ودينهم، واحترام الحريات الدينية ضمن مجتمع ديموقراطي علماني. كما يزداد دور العلمانية في الدولة التباساً، حيث تعتبر الحكومة الفرنسية العلمانية إطاراً لتنظيم الأفكار والمعتقدات، لا فكراً أو معتقداً منفصلاً في حد ذاته، وضرورةً لا بد منها في المجتمعات ذات الثقافة المختلطة “multicultural” لضمان حقوق وحريات الأقليات[5].
ومما يلفت الانتباه هنا، هو أنه في الوقت الذي يجري فيه استحضار مفردات حرية التعبير والحقوق والحريات العامة في سياقات معينة، يتم تسويغ تغييبها أو تقييدها في سياقات أخرى، في صورة يبدو معها استخدام هذه المبادئ والمصطلحات “أداتياً” أحيانا. فحيث تكون مصلحة “مبادئ العلمانية والجمهورية والقيم الغربية الأوروبية حاضرة”، يتم استدعاء هذه المصطلحات ورفض أي تقييد لها، في حين يكون هذا التقييد ذاته مقبولاً في سياقات أخرى طالما لا تمس القيم المذكورة. فعلى سبيل المثال، وبينما قال الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، في معرض تعليقه على حماية فرنسا للرسوم المسيئة للنبي محمد، أن ذلك منطلق من أن الحق في التعبير، بما في ذلك نقد الديانات برسوم ساخرة، هو حق أصيل تقوم فرنسا بحمايته، قامت فرنسا في العام الماضي بإدانة رجلين بتهمة “الازدراء” إثر قيامهما بإحراق دمية تمثل الرئيس ماكرون خلال مظاهرة سلمية. وبحسب بيروليني، فإنه “في حين يتم الدفاع بقوة عن الحق في التعبير عن الرأي أو الآراء التي قد يُنظر إليها على أنها مُسيئة للمعتقدات الدينية، فإن حريات المسلمين في التعبير والمعتقد عادة ما تحظى باهتمام ضئيل في فرنسا تحت ستار “شمولية مبادئ الجمهورية”.
خاتمة
من الواضح أن ظاهرتي الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية تتقاطعان في أسباب نشأتهما وبعض مظاهرهما المرافقة، في صورة يبدو فيها وكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن الظاهرتين تفترقان من نواحي السياقات التاريخية وحدية الواقع المعاش. ويُترَك الباب مفتوحاً على مصراعيه لتفسير وتحديد المفاهيم المتعلقة بحق التدين عندما يتوجب تعريفه في إطارات الديموقراطية والعلمانية، فهذه الإطارات فضفاضة في ذاتها ومتغيرة بتغير الآلة الرسمية وأذرعها وأدواتها الإعلامية والتشريعية والتنفيذية. فما يراه اليمين علمانياً يختلف عما تراه الأحزاب الليبرالية كذلك، وما يمكن أن يمثل حرية تعبير أو خطاب كراهية في سياق، قد لا يكون كذلك في سياق آخر.
وعلى ضوء ذلك، يبدو المطلوب اليوم هو تضافر الجهود على المستويات الرسمية والشعبية لتفكيك ودحض الخطاب الشعبوي حول الإسلام والمسلمين، والذي يرتكز في مجمله على التعميم والصورة النمطية المغرضة أو المغلوطة. ويستدعي ذلك أيضاً تكثيف جهود الجاليات المسلمة للحديث حول ظاهرة الإسلاموفوبيا وفضحها والسعي لمحاسبتها في القنوات الرسمية والقانونية والإعلامية، ومخاطبة الفئات الأوروبية الشابة والمتعلمة وصانعة القرار، خاصة في جذور المجتمع المدني، لتشكيل كتلة ضغط مجتمعي قادرة على محاكمة وعقلنة السياسات المؤسساتية والحزبية الدافعة باتجاه تبني قرارات إقصائية تستهدف المسلمين وتعمل على شيطنتهم.
[1] Edward W. Said, “Orientalism”, (U.S.A: Vintage Books Edition, 1979), p 7
[2] Pratt, D., & Woodlock, R. (2016). Fear of Muslims?: International Perspectives on Islamophobia. Switzerland: Springer. P.19
[4] من بين الدساتير الأوروبية التي نصت على هذه المبادئ كل من:
الدستور الإسباني https://www.constituteproject.org/constitution/Spain_2011.pdf?lang=en
الدستور الفرنسي https://www.constituteproject.org/constitution/France_2008
والدستور الإيطالي https://www.senato.it/documenti/repository/istituzione/costituzione_inglese.pdf
[5] جاء هذا التفسير ضمن مذكرة توضيح أرسلها مركز مراقبة العلمانية الفرنسية للحكومة الفرنسية عام 2014 ليتم تبنيها في أدبيات الدبلوماسية الفرنسية وعلى مواقعها الحكومية https://www.gouvernement.fr/observatoire-de-la-laicite
لا تتحمل فيستو أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء منظمة فيستو. تتعهد فيستو بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.