تمهيد
كانت للسياسات الاقتصادية للجزائر في العشرين سنة الأخيرة أثر على تدني المستوى المعيشي للجزائريين، على الرغم من البحبوحة المالية التي عرفتها الخزينة العمومية، ففشل السياسات الاقتصادية وتفشي الفساد الإداري، ساهما في تدهور القدرة الشرائية للفئات الاجتماعية الفقيرة، ومنها الفئات العمالية ذات الدخل المحدود. وأضافت الحكومة الجزائرية أعباء جبائية جديدة على السلع الاستهلاكية خاصة بعد تراجع أسعار البترول. ساهمت السياسات النيولبيرالية التي انتهجها نظام الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة في تغلغل المال الفاسد بين دواليب الإدارة وهيمنة منظمات أرباب العمل.
عرفت الجزائر موجات من الاحتجاجات ذات المطالب الاقتصادية عبر السنوات الماضية، و لكن سريعا ما أخذت شكلها السياسي عام 2014 ضد تمديد العهدة الرابعة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وصولاً إلى 2019 ومطلب توقيف ترشح بوتفليقة للعهدة الخامسة، وهذا كان أهم مطلب على الإطلاق. موجة الاحتجاجات انطلقت من شرق البلاد و من مدينة خنشلة و التي قادها مجموعة من الشباب العاطل على العمل لتنتشر و تتوسع إلى مدن أخرى. ساهمت هذه الاحتجاجات في إفشال ترشح بوتفليقة للعهدة الخامسة و توقيف انتخابات الرئاسة 2019 التي كانت تنادي بها السلطة آنذاك. يسعى هذا المقال للوقوف على دور وموقف المنظمات النقابية في الاحتجاجات الأخيرة.
أدوار تاريخية للنقابات
لعبت الحركات النقابية و العمالية في الجزائر الدور المحوري والمحرك الأساسي للاحتجاجات في العشرين سنة الأخيرة، وقاومت تبعات السياسات الاقتصادية المتأزمة والنظام النيوليبرالي، وهذا دفع بعلاقة متأزمة بين النقابات والحكومات المتعاقبة. بالإضافة إلى النقابات، لعبت الفئات الاجتماعية غير المهيكلة دوراً في الاحتجاجات الأخيرة، كالعمال و والعاطلين عن العمل والفئات المُهمشة، هذا الدور المحوري للحركات العمالية والنقابية جعل منها محل اهتمام واستقطاب من كل الأطراف الفاعلة في المجتمع: الأحزاب السياسية، السلطة، أجهزة الأمن السياسي، المنظمات الدولية.
سعت النقابات في الجزائر إلى المحافظة على استقلاليتها المادية وخطها النضالي بصعوبة، غير أن هذه الاستقلالية كانت محل مساومات طويلة و عميقة، ومحاولات حقيقية لتدجين النشاط النقابي وتحويل مساره عن هدفه الأساسي، ولذلك اعتمدت النقابات في الجزائر على الأسلوب الدفاعي في علاقتها مع السلطة، وتمكن نظام الحكم آنذاك في العديد من الحالات من الضغط على بعض التشكيلات النقابية بشكل أو بآخر، وإضعاف النشاط النقابي من خلال خلق انشقاقات داخلية، ومنع التراخيص للنشاط [1].
يرجع الاهتمام المتزايد بدور النقابات إلى قدرتها التنظيمية في التعبئة و التأطير. و أيضا المساهمة في زيادة وعي الفئات العمالية بوضعها الاجتماعي و السياسي، فقد وصل عدد أيام الإضراب التي نظمتها النقابات في السنوات الممتدة بين 2005 و 2010 إلى 1142 يوم، أي تقريبا ثلاث سنوات من الإضراب في مدة خمس سنوات[2].
شهد النشاط النقابي الاحتجاجي تغيرا في الفاعلين، فقد انتقلت فعالية النشاط النقابي إلى قطاع الوظيفة العمومية بعدما كان مرتكزا تقليديا على النقابات في القطاع الصناعي و قطاع الاشغال العمومية، وانتقل النشاط النقابي الجزائري من ذوي الياقات الزرقاء من عمال المصانع إلى ذوي الياقات البيضاء من الأطباء والمعلمين وموظفي القطاع العام. التوسع في فئات النقابات المُحتجة ساهم بتوسع الامتداد الجغرافي للاحتجاجات وزاد عدد المشاركين فيها.
الحركات العمالية و النقابية ورحلة البحث عن أدوار داخل الحراك
ما ميّز الحراك الجزائري هو إلغائه للهويات الفرعية للفئات الاجتماعية المشاركة فيه لحساب هوية غالبة ومهيمنة، والتي بُنيت على قاعدة المعارضة والمقاومة لسياسات السلطة القائمة، فلم يكن بالإمكان للمتتبع من بعيد أن يستشعر حضورا للفئات المهنية والعمالية إلا من خلال بعض الشعارات ذات الطابع المهني التي رفعها عمال مؤسسات الطاقة، والغاز، وعمال الدفاع المدني، والمعلمين، والأطباء، والمحامون و القضاة.
حافظت النقابات على أسلوبها الدفاعي من خلال استخدام مصادر قوتها كخيار استراتيجي في تعاملها مع السلطة، ومن ضمن هذه الاستراتيجيات تفضيل النقابات لفترة “الدخول الاجتماعي” لتكثيف إضراباتها. وللتوضيح، فترة “الدخول الاجتماعي” هي فترة الأشهر سبتمبر و أكتوبر ونوفمبر من كل عام، وهي الفترة الأكثر تفضيلا للنشاط النقابي كالإضرابات، و ذلك للضغط على الحكومة، وتعتبر فترة تفضيل لأنها تشهد لقاءات تجمع الحكومة ومنظمة أرباب العمل والاتحاد العام للعمال الجزائريين كممثل وحيد للعمال. وفي اللقاءات يتم مناقشة السياسات الاقتصادية والاجتماعية للعمال واتخاذ القرارات الحاسمة فيما يتعلق بالأجور. فترة “الدخول الاجتماعي”هي أيضا فترة التحاق العمال بعملهم بعد فترة العطل. و أي إضراب من شأنه أن يضغط على الحكومة. تستخدم النقابات فترة “الدخول الاجتماعي” كخيار استراتيجي لضمان استجابة مطالبها، بما في ذلك اشراكها في الحوار الاجتماعي والاعتراف بها كشريك اجتماعي.
الرسم البياني رقم (1): توزيع نسبة إضراب النقابات المستقلة حسب الأشهر في الفترة الممتدة بين 2005 إلى 2010[3]
شاركت التنظيمات النقابية في الجزائر في مختلف اللقاءات التنسيقية التي جمعتها مع تنظيمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، وكان أهمها لقاء “منتدى الحوار“، الذي انعقد بتاريخ 6 تموز الماضي في “عين البنيان” بالعاصمة الجزائر، لنقاش سبل التعامل مع القضايا المتعلقة بتمثيل الحراك وتحديد مطالبه ومواجهة سياسة السلطة.
كما نظمت التنظيمات النقابية تجمعات عمالية في عدد من ولايات الجزائر وخاصة بالمناطق الصناعية، كوهران غربي البلاد وبجاية وتيزي وزو و عنابة و برج بوعرريج شرقي البلاد. وطالبت هذه التجمعات بالإفراج عن الموقوفين في السجون بسبب الاحتجاجات. وفي نفس السياق، قال مسعود بوديبة المتحدث باسم “مجلس الأساتذة”، وهو أكبر التنظيمات النقابية في قطاع التربية في الجزائر: “الحركة الاحتجاجية العمالية تأتي في سياق تسجيل موقف داعم لمطالب الشعب الجزائري المرفوعة منذ فبراير 2019، ورفض محاولات الالتفاف على هذه المطالب، عبر فرض مسار حل لا يلقى الإجماع من كل الجزائريين”، مشيرا إلى كثير من مطالب الشعب الجزائري في احترام المطالب السياسية ورفع التضييق عن الحريات.”
و قد أعلنت النقابات المستقلة في الجزائر عن إضراب عام في 29 أكتوبر 2019، ونظمت مسيرات في مختلف المناطق، كوسيلة ضغط على النظام الذي عزم على تنظيم انتخابات رئاسية في 12 ديسمبر 2019.
المُتمعن في سيرورة الحراك الجزائري يلاحظ المحاولات الجادة للنقابات للبحث عن شرعية، والتي دفعت التنظيمات النقابية إلى التمترس وراء مطالب الحراك والتماهي مع مسيراته السلمية، رغم عدم اتفاقها في كثير من الأحيان مع مطالب المسيرات. إلا أن زخم الاحتجاجات مثلت للتجمعات النقابية فرصة يمكن الاستفادة منها، وبالتالي العمل على رفع مطالب ذات بعد نقابي ومهني في قوالب سياسية.
دعمت كونفيدرالية النقابات، -وهو تجمع يضم أغلبية النقابات من قطاع الصحة والتعليم والوظيفة العمومية-، الحراك الشعبي، “للضغط على السلطة لوقف حملة الاعتقالات ضد الناشطين، ولاستبعاد حكومة نور الدين بدوي، وسحب مشروع قانون المحروقات واسترجاع حق العمال في التقاعد النسبي والتقاعد من دون شرط السن، وللاحتجاج على غلاء الأسعار وتراجع القدرة الشرائية“
ختاما: لم تسمح الميزة التنظيمية و التعبوية للتنظيمات النقابية من أن تعطيها مكانا متميزا في الحراك الأخير في الجزائر، ويعود ذلك لأسباب مختلفة، ولعل أهمها الأسلوب الدفاعي الذي تنتهجه في علاقتها مع السلطة، هذا النهج الذي لا تريد من ورائه النقابات قطع العلاقة مع السلطة بقدر ما تريد أن تعترف بها كشريك في الحوار الاجتماعي. وهي تعتمد على القراءات الاستراتيجية والعقلانية في تعاملها مع الحكومة، مما أثر سلبا على مكانتها في الحراك، فالنقابات تبحث عن شرعية جديدة في عهد جديد.
قبل الاحتجاجات الأخيرة، النقابات الجزائرية كانت تخوض نضالا من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والدفاع عن الطبقات العمالية، الآن هي أمام تحدي بأهمية أن يكون لها تصورات سياسية واقتصادية ملموسة، والحفاظ على الحد الأدنى من قدرتها التنظيمية، دون الوصاية أو التأثر بالتحولات من حولها.
[1] حسين زبيري، ” تحديات الحركة النقابية الجديدة أو المستقلة في مصر والجزائر “، الديموقراطية ، المجلد 15، العدد 59 (2015)، ص 58-71.
[2] حسين زبيري. مساهمة في سوسيولوجيا النقابية في الجزائر.)الجزائر,القبة: دار الخلدونية للنشر و التوزيع، 2019).
[3] حسين زبيري. مساهمة في سوسيولوجيا النقابية في الجزائر.)الجزائر,القبة: دار الخلدونية للنشر و التوزيع، 2019). ص150.
لا تتحمل فيستو أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء منظمة فيستو. تتعهد فيستو بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.