في أواخر يناير الماضي، خرج الرئيس دونالد ترامب وكشف عن الصفقة التي طال انتظارها والتي وعد بأنها ستكون الأولى من نوعها. لا شك بأنها كانت كذلك بالفعل، لكن هل يعني ذلك أنها كانت تبشر بخير؟ لقد كلّف ترامب صهره جاريد كوشنر بالقيام بحملة تسويق للصفقة، بما في ذلك إقناع الفلسطينيين بأن هذه الصفقة في صالحهم، ولكن الواضح أن جاريد كوشنر فشل فشلاً ذريعًا في مسعاه. كان الفلسطينيون واضحين للغاية في رفضهم “للخطة”، ودعوا الجميع إلى احترام القانون الدولي، ودعوا إسرائيل إلى المفاوضات على أساس الشرعية الدولية.
عند قراءة الخطة، التي تسمى رسميًا “رؤية للسلام”، يشك المرء في أن هناك أي خبراء قانونيين قد استُعين بهم في صياغتها. وفي مقابلة مع قناة تلفزيونية مصرية، ذكر كوشنر بفخر أن خلفيته في مجال العقارات ساعدته على فهم مدى تعقيد صياغة مثل هذه الخريطة الممتازة للجسور والطرق السريعة مع مراعاة “النمو الإسرائيلي السريع”. ولكن خبرته في مجال العقارات لم تسعفه في معرفة البديهي على ما يبدو: أنه إذا لم يتم بناء عقار أو تداوله على أسس قانونية سليمة، فإنه يعد لاغياً وباطلا لانتهاكه قواعد القانون.
“الخطة” في أعين القانون الدولي
لا يمكن أن نجد مثيلاً للصراع العربي الإسرائيلي من حيث عدد القرارات والأدبيات القانونية الدولية الصادرة بشأنه. فمنذ العام 1922 وحتى اليوم، هناك الكثير من القرارات والأدبيات القضائية حول الوضع القانوني لفلسطين وشعبها.
ومن المفارقات أن هذه الحقيقة بالذات هي المشكلة في نظر واضعي “رؤية” ترامب للسلام: كان القانون الدولي هو المشكلة، لأنه يقدم حلولا “غير واقعية”، و “غير قابلة للتحقيق”. لقد نصت الرؤية على ما يلي:
“منذ عام 1946، كان هناك ما يقرب من 700 قرار من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة وأكثر من 100 قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فيما يتعلق بهذا النزاع”[1].
والغريب في الأمر، أن رؤية ترامب هذه قائمة على تشويه سمعة قرارات الأمم المتحدة، واصفةً إياها بـ “غير المتسقة” و”المحدودة زمنيًا”، بل وأسوأ من ذلك – حسب ادعاء صائغيها – أنها “لم تحقق السلام”. لم يكتف نص الرؤية بإلقاء اللوم على “التفسيرات المتعارضة لبعض أهم قرارات الأمم المتحدة، بما في ذلك قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242″، بل ذهب أبعد من ذلك بتعديه على القرارات ذاتها، لأنها “مكّنت… الزعماء السياسيين لفترةٍ طويلةٍ جدًا من تجنب معالجة تعقيدات هذا الصراع بدلاً من تمكين طريق حقيقي للسلام”. لا بد من أن ننوه هنا، أن هذه القرارات الـ 700 كان يمكن أن تكون أكثر بكثير لو لم تستخدم الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) بانتظام لصالح إسرائيل.
تمثل هذه الرؤية انتكاسة غير مسبوقة في موقف الولايات المتحدة تجاه القانون الدولي وتجاه الأمم المتحدة، التي كان للولايات المتحدة دور رئيسي في تأسيسها عام 1945
الأدهى من ذلك، أن “الخطة” لم تذكر الاحتلال أو الفصل العنصري (الأبارتايد)، أو حتى مصطلح “حل الدولتين”، وهو الحل المعترف به دوليًا والقائم على أسس القانون الدولي.
وفي الحقيقة، تمثل هذه الرؤية انتكاسة غير مسبوقة في موقف الولايات المتحدة تجاه القانون الدولي وتجاه الأمم المتحدة، التي كان للولايات المتحدة دور رئيسي في تأسيسها عام 1945. من السخف أن نجد أنفسنا نتساءل عما إذا كان صائغو هذه الخطة يتوقعون من القانون الدولي والأمم المتحدة حماية المحتل القوي بدلاً من الضحية المستضعف!؟
في الواقع، تعود بنا هذه الخطة إلى مأساة الحرب العالمية الثانية والأحداث التي سبقتها، حيث لقنت الحرب العالمية الثانية القوى المتحاربة فيها آنذاك درسًا مكلفًا للغاية: إما التعاون أو الانهيار. وقد أدى ذلك إلى إنشاء الأمم المتحدة، وإبرام العديد من الاتفاقيات الدولية التي تعكس تقدم الحضارات الإنسانية نحو مستقبل أفضل من الماضي المؤلم؛ نحو عالمٍ بلا حربٍ عالميةٍ ثالثة! ورغم ذلك، إلا أن الرئيس ترامب يرى خلاف ذلك، ويذكرنا انقلاب “خطته” على قواعد القانون الدولي الراسخة، وارتدادها عن النظام القانوني الدولي، بالماضي الباهظ الذي تودّ الإنسانية بكل ما أوتيت من قوة تجنب تكراره!
من هنا، ذهبت الخطة للتعامل مع عدد من القضايا “خارج الصندوق” كما وصفها واضعوها؛ ولفظة “الصندوق” في هذه الحالة تعني النظام القانوني الدولي، ومن ذلك:
- أرخبيل من البانتوستانات الفلسطينية غير السيادية:
نعت الرئيس الفلسطيني محمود عباس “الدولة” التي عُرضت عليه بـ “قطعة الجبن السويسري”، ويبدو أن معه كل الحق في إطلاق مثل هذا الوصف على هذا العرض! يقوم أساس الدولة الفلسطينية التي يقترحها الرئيس ترامب على ارتباط أرخبيل البانتوستانات المعزولة (المصطلح المستخدم في الرؤية هو “جيوب”) بطرق سريعة ضيقة تشرف عليها إسرائيل.
وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 242، الذي هو أساس حل الدولتين، ينبغي إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، التي تتراوح مساحتها بين 20-22٪ من إجمالي مساحة فلسطين زمن الانتداب البريطاني. أما “الفرصة” الجديدة التي يقدمها ترامب، فبموجبها ينبغي أن تقوم دولة فلسطين ذات السيادة المحتملة على حوالي 15٪ من إجمالي الأرض.
وصف مايكل لينك، المقرر الخاص للأمم المتحدة، الدولة التي يعرضها ترامب بأنها “دولة بوتيمكين”، بمعنى أنها تفتقر إلى معظم سمات الدولة و “تشكل كيانًا جديدًا تمامًا في سجلات العلوم السياسية الحديثة”.
- الحدود والمستوطنات
وفقًا للخطة [ص 8-9]، لن يكون هناك أي “عمليات نقل قسري للسكان العرب أو اليهود”، وبالتالي ستبقى المستوطنات على حالها. كما سيتم ضم المستوطنات غير الشرعية إلى إسرائيل، وسيخضع المستوطنون للقانون المدني الإسرائيلي. كما سيُضم وادي الأردن إلى إسرائيل على أساس أنه “ضروري لضمان أمن إسرائيل القومي”. وهذا يعني أن هذه “الفرصة” ستقضم 30-40٪ من أراضي الضفة الغربية، التي سيتم منحها لإسرائيل.
لم تشر “الخطة” كذلك إلى أي من قرارات مجلس الأمن الدولي، ولا قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا حتى إلى فتاوى محكمة العدل الدولية، وكلها تصف المستوطنات بأنها غير قانونية بشكل قاطع.
يجرّم القانون الدولي استخدام القوة لضم الأراضي، ويلزم جميع الدول بعدم الاعتراف بهذا الضم “erga omne“. هذه قضية تم البت فيها ولا يوجد على الإطلاق أي رأي قانوني آخر يشرعن الضم بالقوة!
- اللاجئون
خلافًا للاعتقاد السائد، لم يكن قرار الجمعية العامة 194 مصدر إثبات لحق الفلسطينيين في العودة، بل هو تأكيد على هذا الحق. وفقًا لـ “الخطة”، فإن “الاقتراحات التي تطالب بأن توافق دولة إسرائيل على استقبال اللاجئين الفلسطينيين، أو الوعد بعشرات المليارات من الدولارات كتعويض للاجئين، لم تكن واقعية ولم يتم تحديد مصدر تمويل موثوق به لتحقيقها” [ص 9 من الخطة].
وبالتالي، فإن “الخطة” تخلص صراحة إلى أنه “لن يكون هناك حق في العودة أو استيعاب لأي لاجئ فلسطيني في دولة إسرائيل”. والحل “الواقعي” وفقًا لهذه الرؤية هو أن “يتحمل إخوانهم العرب المسؤولية الأخلاقية لإدماجهم في بلادهم مثلما تم دمج اليهود في دولة إسرائيل”.
لا تنص “الخطة” أبدًا على أن إسرائيل، التي أجبرت الفلسطينيين على النزوح في المقام الأول، ستقدم أي تعويض لهم، بل تؤكد حق “اللاجئين اليهود” من الدول العربية في الحصول على تعويض كامل عن أصولهم المفقودة.
وفي الواقع، تم التأكيد على حق الفلسطينيين في العودة والتعويض مرارًا وتكرارًا في عشرات القرارات للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما يعتبر بديهيًا بموجب القانون الدولي العرفي.[2] يبدو أن واضعي هذه “الخطة” لم ينتبهوا إلى هذا الأمر!
- ضم القدس بالكامل
تؤكد “الخطة” وفقًا لاعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل في العام 2017 على أن القدس هي عاصمة إسرائيل غير القابلة للتجزئة. وتقترح “بكل سخاءٍ” على الفلسطينيين إنشاء عاصمتهم الخاصة بهم وتسميتها “القدس” (المصطلح العربي للقدس) وذلك في أي مكان “خلف الجدار الأمني”؛ أي خارج مدينة القدس بالكامل. [ص 17 من الخطة]
مرة أخرى، لم يتم ذكر أي من القرارات التي أدانت صراحةً ضم إسرائيل للقدس، ولا حتى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 2017، الذي يدين اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمةً لإسرائيل ويدعوها للتراجع عن الإعلان.
هل هو إعلانُ فصلٍ عنصريّ (أبارتايد)؟
لقد تم تعريف الفصل العنصري (الأبارتايد)، وهو مصطلح جنوب أفريقي يعني “الفصل” أو “العزل”، في اتفاقية الفصل العنصري لعام 1973 على أنه “أفعال غير إنسانية مرتكبة بغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عرقية ما من البشر على أي فئة عرقية أخرى من البشر واضطهادها بصورة منهجية”. أكدت عدة تقارير رفيعة المستوى أن إسرائيل أنشأت نظام فصلٍ عنصريّ كامل الأركان على الفلسطينيين؛ شبيه بـ، أو حتى أسوأ من، نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ويرى بعض الباحثين بأن إسرائيل كانت دولة عنصرية طوال الوقت. (فولك 2017).
الجديد في هذه “الخطة” هو أنها تثبّت وضع إسرائيل كدولة عنصرية بمباركة الولايات المتحدة الأميركية: القوة العظمى في العالم. ويتعين على الفلسطينيين الآن بموجبها أن يعيشوا في ظل نظام هجين من الفصل العنصري.
في الواقع، يعيش الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة تحت كيان غير ذي سيادة تحت إشراف إسرائيل. ويعيش سكان القدس “كمقيمين دائمين” ومحرومين من الحقوق السياسية والمدنية. في حين يعيش المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل (حوالي 20٪) كمواطنين من الدرجة الثانية، خصوصًا بعد سن قانون الدولة القومية لعام 2018 (Beaumont, 2018)، الذي ينص على أن اليهود وحدهم لهم الحق في تقرير المصير. وأخيرا، يحرم اللاجئون الفلسطينيون من العودة.
تشبه خريطة الأرخبيل التي تقدمها “الخطة” إلى حد كبير خريطة البانتوستانات جنوب الأفريقية التي أعدتها النخبة الحاكمة البيضاء للجنوب أفريقيين السود. ومن المثير للاهتمام أن كلا نظامي الفصل العنصري استشهدا بنفس الأسباب: الأغراض الأمنية.
أين يتجه الصراع؟
مما يؤسف له أن استخدام “الخطة” المكثف لمصطلحات مثل “الواقعية” و”القابلة للتحقيق” و”الحقائق الجديدة على الأرض” يوضح أن الولايات المتحدة وإسرائيل تنظران إلى النزاع نظرةً قائمة على القوة بدلاً من نظرةٍ قائمة على الحقوق. إن “الحقائق الجديدة” التي خلقتها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية هي التي تحدد الشكل الذي ينبغي أن يتخذه الحل إذن! هذا سيؤدي بالتأكيد إلى إطالة أمد الصراع ويؤدي إلى استخدام القوة.
لن يقبل العالم بنظام فصل عنصري (أبارتايد)، ولن يقبل الفلسطينيون أن تستعبدهم “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
إذا ترك الفلسطينيون وحدهم في هذه المعركة، فسيخسر الجميع. وهذا شيء تتمنى حدوثه كل القوى الرجعية التي تؤمن بقانون الغاب.
معركتنا جميعًا: الخروج من الوحل
رؤية ترامب للسلام جعلت الأمر أكثر وضوحًا من أي وقت مضى؛ الكفاح الفلسطيني من أجل الحرية وحقوقهم الأساسية ليس كفاحًا فلسطينيًا حصرًا، ويجب ألا يكون كذلك. النضال الفلسطيني هو نضال دولي ضد العنصرية والقهر والرجعية. إنها معركة من أجل الحرية والمساواة وقيم حقوق الإنسان والقانون الدولي نفسه. إذا ترك الفلسطينيون وحدهم في هذه المعركة، فسيخسر الجميع. وهذا شيء تتمنى حدوثه كل القوى الرجعية التي تؤمن بقانون الغاب.
في ضوء ذلك، ينبغي على الفلسطينيين وجميع من يرغبون في نصرة حقوق الإنسان والقانون الدولي، أن يبحثوا عن جميع الوسائل الممكنة لوقف القضاء على القانون الدولي. ومن هذه الوسائل الممكنة:
- اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على قرار يدين “الخطة” وإعادة التأكيد على ما ينص عليه القانون الدولي بوضوح. كما ينبغي اتخاذ قرار بتسمية إسرائيل رسميًا دولة فصل عنصري.
- اللجوء إلى محكمة العدل الدولية من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو مباشرة كما فعلت فلسطين مسبقًا عندما رفعت دعوى على الولايات المتحدة بسبب نقل سفارتها إلى القدس، مستفيدة من عضويتها في (UNSCO) للانضمام إلى اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، والذي سمح لها بمقاضاة الولايات المتحدة.[3]
- الاستمرار في المقاضاة لدى المحكمة الجنائية الدولية لتعزيز حقيقة أن إسرائيل دولة عنصرية، باعتبار أن جريمة الفصل العنصري تندرج تحت اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
- تفعيل جميع المبادئ القانونية في القوانين المحلية في جميع أنحاء العالم لمقاضاة مجرمي الحرب الإسرائيليين ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية كلما أمكن ذلك (الاختصاص العالمي).
- التعاون مع حملات مثل حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل (BDS) والاحتجاج على الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية على الأرض، من خلال عدة وسائل، ومنها: مسيرة العودة الكبرى (The Great March of Return).
من الضروري ختاما أن نكرر: إذا خسر الفلسطينيون هذه المعركة، فسيخسر الجميع، بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة!
[1] للحصول على النص الكامل في هذا الصدد، راجع الجزء “أ”: الإطار السياسي، الصفحة 5 من النسخة الإنجليزية للخطة (Peace to Prosperity).
[2] Quigley, J. (1998). Displaced Palestinians and a Right of Return. Harv. Int’l. LJ, 39, 171
[3]See Palestine’s submission to ICJ; SUBMISSION, (2018). “APLICATION INSTITUTING PROCEEDINGS: PALESTINE VS UNITED STATES OF AMERICA”. Page 10, footnote 10. Retrieved on March 25, 2020 from: https://www.icj-cij.org/files/case-related/176/176-20180928-APP-01-00-EN.pdf
لا تتحمل فيستو أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء منظمة فيستو. تتعهد فيستو بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.