العاملات الفلسطينيات في المستعمرات الإسرائيلية: مقابلات خاصة تشي بالكثير عن الحق والكرامة المهدورة
مقدمة
“سمعتها كثيراً، من الطبيعي أن يأتي المشغل العربي (المُعلِّم) ويخبرك أنّ هذا آخر يوم لك في العمل داخل المستعمرة، في الحقيقة أشعر بفرح غامر وكأنني على وشك الاحتفال بأحد الأعياد، ولكن يبقى السؤال دوماً ماذا سأعمل، وكيف سأقوم بتغطية نفقاتي؟!”.
لربما تختصر هذه الجملة الكثير من الحديث عن ممارسات الاستيطان الإسرائيلي على مدى عقود، خاصة في تحويل الاقتصاد الفلسطيني لاقتصاد هشَ وتابع، من خلال سيطرته على مصادر الموارد الطبيعية والحدود ومصادرة الأراضي، وتحويل الفلسطينيين من ملّاك للأرض ومنتجين إلى عُمّال في داخل الخط الأخضر أو المستعمرات الإسرائيلية المقامة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في العام 1967. بالإضافة إلى انتهاك حقوق العاملات والعمال وامتهان كرامتهم الإنسانية.
يساعد تفسير العلاقة بين المشغل الإسرائيلي في المستعمرات والعمال والعاملات الفلسطينيين على فهم تقنيات المنظومة الاستعمارية للسيطرة على المستعمِر، والدفع به لتعظيم وإعلاء القيمة الاقتصادية والربح على حساب الحقوق الوطنية. وتنتقل هذه التقنيات بالتدريج من الحيز المكاني الضيق وهو مكان العمل، إلى الحيز المكاني الأوسع وهو المجتمعات الفلسطينية.
ولفهم ذلك بشكل أعمق، قابلنا مجموعة من النساء الفلسطينيات من منطقة “الجفتلك”[1] في الأغوار الفلسطينية، ممن يعملن في المستعمرات الإسرائيلية، وسألناهن عن تفاصيل العمل اليومية وصعوباته، ومخاوفهن، والبدائل الممكنة في حال تركن المستعمرات.
المُعلِّم الكبير المُعلِّم الصغير
يعتمد المشغل الإسرائيلي في علاقته مع العاملات والعمال على السماسرة العرب بدور “الكومبرادور”، و يقوم السماسرة بجلب العاملات والعمال لضمان دوران عجلة الاقتصاد الإسرائيلي، مع العلم أن هذه المصانع مقامة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في العام 1967، وهي في الأصل أراض تعود ملكيتها للسكان الفلسطينيين الأصلانيين تمّ مصادرتها منهم بذرائع مختلفة.
تُصنِّف العاملاتُ الفلسطينياتُ في المستعمرات الإسرائيلية “السماسرةَ” العرب إلى مستويين، الأول وهو “المعلم العربي الكبير” والذي يقوم بتشغيل مجموعة من السماسرة الصغار موزعين على عدّة مناطق جغرافية، مهمتهم البحث عن العاملات من هذه المنطقة والتعاقد معهن شفوياً على العمل داخل المستعمرات الإسرائيلية، والالتزام بنقلهن من وإلى أماكن العمل. و تخضع العاملات للإشراف المباشر من المعلم الصغير، وهو المستوى الثاني من الإشراف، والذي يرافقهن في أثناء العمل ويقوم بدور الرقيب عليهن. وبدوره يخضع المعلم الصغير لإشراف المعلم الكبير حيث يقوم الأول بتزويده بكشف عن العاملات المسؤول عنهن.
وتشير التقديرات إلى وجود 35.400 عامل وعاملة يعملون في المستعمرات الإسرائيلية، تمّ تصنيفهم تحت بند العمالة غير المنظمة، وذلك بسبب حرمانهم من كافة الحقوق التي نصّ عليها قانون العمل الإسرائيلي. ( سعد، 2020)
لا تمتلك النساء رفاهية اختيار مكان ونوع العمل، بل يجبرن على القبول بحسب الفرص المتوفرة في المصانع أو في المزارع، ومن الممكن أن تتنقل العاملة بين أكثر من عمل خلال السنة وذلك حسب المواسم، فمثلاً قد تعمل في مزارع العنب وبعد انتهاء موسمه تتوجه للعمل في التمور، وهكذا.
تُجبر النساء العاملات في المستوطنات على التزام الصمت تجاه كل ما يتعرضن له من انتهاكات، فكما أخبرتنا العاملات من خلال مقابلتهن، أنّهن لا يستطعن التقدم بشكوى في حال كان العمل صعباً وفوق طاقتهن وشعرن بالتعب جراء ذلك، أو كان يتم في ظروف قاسية مثل العمل في المَزارع بعد هطول الأمطار وما يرافقه من صعوبة قطف المحصول، إذ أنهنّ مجبرات على إنهائه وبالجودة المطلوبة. وفي المرات التي حاولنّ الاعتراض وطالبن بتحسين ظروف العمل واحترام قدراتهن وطاقاتهن الجسدية، كان رد المعلم العربي بأنّ الخيار الوحيد أمامهن هو ترك العمل، لأنه قادر على جلب عاملات بدلاً منهن، مستغلاً ظروفهن وحاجتهن للعمل، وعلمهنّ التام بأنه قادر على فعل ذلك من خلال شبكة “المعلمين الصغار” المستفيدة مادياً منه، والمنتشرة في معظم مناطق الأغوار.
تقنيات الضبط والهيمنة
لقد نجح المشغل الإسرائيلي في خلق نموذج الكومبرادور الفلسطيني الذي يريد، ويساعده في تحقيق مصالحه وأطماعه كما يرغب. فبحسب النساء لا يتواصل المشغل الإسرائيلي معهن ولا يتحدث إليهن إلا في حالات نادرة جداً، وغالباً يأتي الحديث في إطار ملاحظات أو توجيهات للقيام بالعمل. يمارس المشغل الإسرائيلي دوره الرقابي على العمل من خلال شبكة الكاميرات التي قام بتركيبها، وعند اكتشافه لأي خلل يقوم باستدعاء المعلم العربي وإطلاعه على الأمر، حيث يقوم الأخير بمتابعة الخلل بالنيابة عنه.
تتراوح العقوبات التي يفرضها المشغل الإسرائيلي على العاملات بين الخصم من الأجرة إلى الطرد من العمل، مع دفع غرامة تصل لحوالي 20 ألف شيكل. وفي الحالات التي يحدث فيها شجار بين العاملات، يكتفي الكومبرادور الفلسطيني بالمشاهدة دون أي محاولة للتدخل لفض الشجار الذي قد يلحق الأذى بالممتلكات والأشخاص، وبعد انتهاء الشجار يقوم الكومبرادور الفلسطيني باستدعاء أطراف الشجار واستجوابهم عما حدث، ثم يصدر حكمه، والذي ليس بالضرورة أن يكون منحازاً للحقيقة، وذلك بناءً على علاقة المصلحة وخاصة الاقتصادية منها التي تجمعه بالعاملات والعمال. وتقول إحدى العاملات إن المشغل العربي يسعى دائماً لإفهامهنّ بأنّ من مصلحتهن عدم التدخل في الشجار.
يوظف المُشغّل الإسرائيلي العقلية الأمنية في التعامل مع العاملات والعمال، فهن مجبرات على تسليم هواتفهن في بداية اليوم، والحجة هو ضمان عدم انشغالهن بها في أثناء العمل. لا يكترث الاحتلال لظروف النساء وحاجتهن في بعض الأحيان لاستخدام الهاتف للاطمئنان على أفراد العائلة، فمثلاً هناك عاملة قابلتُها لديها طفل مريض تضطر لتركه في المنزل، ولا يوجد من يقوم على رعايته في أثناء غيابها، حيث أنّ بقية أطفالها صغار ويحتاجون لمن يرعاهم. الطريقة الوحيدة للوصول للعاملات في حالة الطوارئ هو الاتصال بالمعلم العربي الصغير، والذي يترك له تقدير مدى خطورة الحدث ويقرر فيما إذا كان بالإمكان الانتظار أو ضرورة إخبار العاملة، طبعاً بما يضمن عدم التأثير على سير العمل.
يستخدم المشغل الإسرائيلي أيضاً نظام العقاب الجماعي في حال حدوث مخالفات، وتحديداً عند اكتشافه أنّ أحداً لم يسلم هاتفه. تتحدث العاملات اللواتي تمت مقابلتهن عن نوعين من العقوبات: الأول، الحرمان من الاستراحات، والتي تكون مدتها 10 دقائق كل ساعتين لتناول القهوة والشاي، ويمنحن فقط استراحة الفطور ومدتها 30 دقيقة من 10 حتى 10:30 صباحاً. أما العقوبة الأخرى فهي سحب الكراسي التي يجلسن عليها أثناء العمل، وهذا يعني أن عليهن العمل وقوفاُ من الساعة 6 وحتى الساعة 2 باستثناء الجلوس لتناول طعام الإفطار، وذلك دون أدنى مراعاة للظروف الصحية لبعض العاملات، أو حتى وجود عاملات كبيرات في السن كما هو الحال مع واحدة من السيدات اللواتي تمت مقابلتهن.
من أدوات الهيمنة والضبط التي يمارسها المُشغل الإسرائيلي والوسطاء العرب هو التفرقة بين العاملات. فعندما سئلتُ العاملات لماذا لا يقمن بالاحتجاج على سياسة العقاب الجماعي مثل تنظيم وقفات احتجاجية داخل المصنع أو الإضراب نهائياً، أجبن بأنّهن حاولن القيام بذلك، ولكن الذي حدث هو حصول انقسامات بين المشغلين العرب، فمنهم من أيّد موقف العاملات، ومنهم من خالفه ووقف إلى جانب المشغل الإسرائيلي الذي كان هددهم بالطرد، والتعميم على بقية المصانع والمزارع بعدم تشغيلهم، ليتم استخدام الورقة الاقتصادية للضغط عليهم، لتنتهي الأمور لصالح المشغل الإسرائيلي في الخضوع له.
القيمة الاقتصادية على حساب الحقوق الوطنية
تتناقل النساء بينهن أنّ الاستمرار في العمل مرهون بمدى قدرة العاملة على تجنب افتعال “المشاكل” والتركيز على القيام بالعمل وإتقانه فقط لا غير.
على الجانب الآخر يتم استغلال حاجة العاملات من ذوات التعليم والدخل المتدني، ويتم انتهاك حقوقهن بشكل واضح. فقد صرحت النساء بأنّه يتم التعاقد معهنّ شفوياً على نظام أجرة يومية قيمتها 85 شيكل (24 دولار)، و12 شيكل (3.5 دولار) عن كل ساعة عمل إضافي، مع العلم بأنّ قانون العمل الإسرائيلي نصّ على أنّ الحد الأدنى للراتب الشهري 5300 شيكل (1540 دولار)، وساعة العمل 29.12 شيكل (8.5 دولار). في الوقت الذي يجني به السمسار أرباحا طائلة تصل في الحدّ الأدنى إلى 21 ألف شيكل (6100 دولار) شهرياً.
بيئة عمل تحفها المخاطر
فقدان العمل في المستعمرة ليس الشيء الوحيد الذي تخشاه النساء، فهناك جملة من المخاوف لا يتحدثن عنها في العادة كما أخبرنني، مثل خطر الانزلاق أثناء العمل والإصابات الناجمة عن ذلك والتي قد تؤدي إلى عاهات مستديمة. أو حدوث تماس كهربائي واندلاع الحرائق وصعوبة الخروج من المصنع خاصة أنّ هناك بابين فقط: باب كبير لدخول الآليات والثاني صغير مخصص لدخول العاملات والعمال، مما يعني صعوبة عملية الإخلاء.
وتتخوف العاملات من الأعمال الانتقامية التي قد يقوم بها المستوطنون ضدهن. تحدثني إحدى السيدات أنّها غالباً ما تفكر ماذا لو قام أحد المستوطنين باقتحام المصنع وقام بفتح نيرانه عليهم، من سيقوم بحمايتهن؟ وكيف سيتصرفن في هذه الحالة خاصة أنّ تصميم المصنع لا يسمح بعملية الإخلاء الفوري.
نظرة المجتمع لعمل النساء في المستعمرات هو أيضاً جزء من مخاوفهن، وما يترتب عليها من عزوف بعض الشباب عن التقدم لخطبتهن بسبب ذلك. تقول إحدى الفتيات إنّ أفراد المجتمع المحلي في منطقة الجفتلك لا يعيرون أهمية لذلك، لأنّ الغالبية العظمى من نساء المنطقة تعمل في المستعمرات وبالتالي فهي ليست بالشيء المستهجن. لكنّ المشكلة في الأفراد من المناطق الأخرى والذي ينظرون بعين الريبة والشك لهؤلاء الفتيات لمجرد معرفتهن أنهن يعملن في المستعمرات.
وختاماً، ما البديل؟
في ختام لقائنا أعربت السيدات والفتيات عن رغبتهنّ الجادة في ترك العمل في المستعمرات، لا سيما وأنّ دوافعهن للعمل مرتبطة بحاجتهن للحصول على المال لأسباب مختلفة لمساعدة الزوج أو العائلة، خاصة أنّ منهن من تترأس الأسرة اقتصادياً بشكل كامل، أو لإكمال دراستها الجامعية.
الحديث عن توفير بدائل للعمل في المستعمرات الإسرائيلية لا يبدو ضرباً من الخيال، فهناك العديد من الأفكار لديهن لتأسيس مشروع خاص صغير، مستوحى من عملهن الحالي في المستعمرات، أو من مهارات اكتسبنها من دورات تدريبية مثل التجميل، بل ومنهن من قامت بإعداد دراسة جدوى تفصيلية للمشروع. لكن المشكلة تكمن في تهميش منطقة الأغوار.
وعلى الرغم من قيام بعض المؤسسات بتنفيذ أنشطة في مناطق الأغوار، وخاصةً تلك التي تهدف إلى تمكين المرأة اقتصادياً، إلا أنّ هذه الجهود لا تبدو كافية. بالإضافة إلى غياب دور السلطة الفلسطينية في هذه المناطق، خاصةً أنها تصنف ضمن مناطق ج والتي تخضع لسلطة الاحتلال، التي لا تدخر جهداً في سبيل التضييق على السكان الفلسطينيين الأصلانيين ودفعهم للهجرة.
المراجع
الفار، شيرين: سماسرة يستغلون عاملات فلسطينيات في المستعمرات ماديا وجنسياً، تحقيق استقصائي لوكالة وطن للأنباء وشبكة أريج، 2/9/2013. shorturl.at/DLPQ4، https://www.wattan.net/ar/tv/77981.html
الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، التعداد العام للسكان والمساكن والمنشآت 2017: ملخص النتائج النهائية للتعداد- محافظة أريحا والأغوار، رام الله – فلسطين، 2019.
حنيطي، أحمد: قرية الجفتلك: المجتمع والاقتصاد تحت الاستعمار الاستيطاني. مجلة الدراسات الفلسطينية، 2019م.
سعد، شاهر، الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا في الضفة الغربية على المنشآت الصغيرة والمتوسطة، التحديات والفرص المتاحة للتعافي والصمود، وقائع الجلسة الحوارية المغلقة، معهد ماس، رام الله، فلسطين، 31/8/2020.
معهد الأبحاث التطبيقية – القدس (أريج): دليل قرية الجفتلك. 2012.
موقع كل الحق، التشغيل وحقوق العاملين، shorturl.at/fgkCF ، www.kolzchut.org.il/ar
[1] الجفتلك هي إحدى قرى محافظة أريحا وتقع إلى الشمال منها وتصنف ضمن منطقة الأغوار الوسطى. يحد القرية من الشرق نهر الأردن، ومن الشمال قرية مرج غزال، ومن الغرب قرى شرق محافظة نابلس مثل دوما ومجدل بني فاضل وعقربا، ومن الجنوب قرية فصايل. (معهد الأبحاث التطبيقية – أريج، 2012). يبلغ عدد سكانها 3100 نسمة، وتشكّل الإناث ما نسبته 49% حيث يبلغ عددهم 1505، فيما يشكّل الذكور ما نسبته 51% ويبلغ عددهم 1595.(الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2019).
تعتبر الزراعة النشاط الاقتصادي الرئيسي في القرية وتشكّل ما نسبته 90% من القوى العاملة، فيما تتوزع بقية الأيدي العاملة على الأنشطة الاقتصادية التالية: قطاع التجارة 5%، سوق العمل الإسرائيلي 3%، قطاع الوظيفة 2%. (حنيطي، 2019، ص8).
لا تتحمل فيستو أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء منظمة فيستو. تتعهد فيستو بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.