نادى الأديب الألماني الكلاسيكي يوهان جوتة إلى إحياء التّوليف بين الآداب حول العالم باعتبارها إنتاجاً إنسانياً مشتركاً من خلال ما سماه بـ “عالميّة الأدب”، وتجريد “الأدب المقارن” من أي نزعة فوقيّة. وقد أيّد العديد من الأدباء هذا التوجه، ووجدوه آلية فعاّلة لتفكيك الرّؤية الاستشراقيّة الاستعمارية التي التصقت بالأدب العالمي بعد منتصف القرن العشرين.
يسعى التقرير الوقوف على مفهوم “عالمية الأدب”. وذلك من خلال فحص العلاقة بين ” الأدب الصّوفي الإسلامي” و ” الأدب الأمريكي المتسامي”.
الأدب الصوفي والأدب العالمي
ظهر التصّوف في القرنين الثامن والتاسع الميلادي، ومن أبرز المتصوّفين حينها الحسن البصري(110هجري -728 ميلادي )، ورابعة العدويّة، (185 هجري – 800 ميلادي). وعُرِف آنذاك بمرحلة “الزّهد” والتقشّف و “هجر متاع الدنّيا”. وجرت تحولات على المذهب الصّوفيّ عبر تقدّم الزّمن. وتأثرّت بتيارّات فلسفيّة متعدّدة العقائد كالغنوصيّة Gnosticism، والباطنيّة، الإسماعيليّة، وإخوان الصّفا الذين انتقدهم الإمام الغزالي( 450 هجري- 1059 ميلادي). واعتبر منهجهم مناف للتعاليم الإسلامية. وقد بيّن ذلك في كتبه ” المنقذ من الضّلال” و” تهافت الفلاسفة ” و” فضائح الباطنيّة “.
وانتشر فكر التصّوف السّني بعد الغزالي بشكل كبير. ثمّ ظهر مرّة أخرى تيّار جديد في القرن الثالث عشر ميلادي. مزج بين الفلسفة والدّين وتأثّر بالفلسفات الأجنبيّة الأفلاطونيّة واليونانيّة، أبرزهم محي الدّين ابن عربي المتوفّى في 1240 م. وفي هذه الفترة تأثّرت الصّوفيّة بالفلسفة الغربيّة.
يعتبر الأديب الألماني يوهان غوتة (Johann Wolf Gang Von Goethe) من رواد الأدب المقارن تحديداً في بدايات القرن 19م. وطرح فكرة الأدب العالمي (Welt literature) عام 1827م. حيث اعتبر أنّ ما ينتج عن الأدب إرثاً عالميَاً بالإمكان نسبته للجميع.
وترجم جوتة بعض الأعمال الأدبية الشرّقيّة (Oriental writings) إذ عُرف عنه إعجابه الشّديد بالأدب الشّرقي، ودعى للتجانس (Homogenization) كآلية لتحقيق الوحدة بين الشّرق والغرب في مجال الأدب. و أكد غوته على أهمّية التّبادل(Reciprocal) بين أدبيات القوميّات المتعدّدة، وضرورة عزلها عن الأديولوجيّات؛ لأنّه يعتبر الأدب مهما كان مصدره لن يسمّى بغير” الأدب” ( (Neema, 2012, p.6 . وكان من بين أبرز أقواله: “الشّرق والغرب لن ينفصلا”.(Marino, 1988, p.45)
يعتبر الأديب الألماني يوهان غوتة (Johann Wolf Gang Von Goethe) من رواد الأدب المقارن تحديداً في بدايات القرن 19م. وطرح فكرة الأدب العالمي (Welt literature) عام 1827م. حيث اعتبر أنّ ما ينتج عن الأدب إرثاً عالميَاً بالإمكان نسبته للجميع.
وساهم الأدب المقارن في عولمة الأعمال الأدبيّة عن طريق التّرجمة التي اعُتبرت الأداة الأكثر فعاليّة في التبادل الفكري. ونشطت في القرن التاسع عشر ما يعرف بـ “المتعالية الأمريكية”(Transcendentalism)، كأحد أهم الحركات الأدبية التي دعمت فكرة جوتة. و تأثّر أصحاب هذا التّيار بالأدب الشّرقي الصّوفي على وجه الخصوص. ويعدُّ رالف والدو أيمرسون (Ralf Waldo Emerson) (1808-1883م) رائد حركة المتعالية في أمريكا، وقد أثّر في العديد من الكتّاب والشّعراء من بعده أمثال: والت ويتمان وهنري ديفيد ثورو (Henry David Thoreau, Walt Whitman).
بعض دراسات الأدب المقارن تشير إلى وجود تشابه بين الأدب الصوفي الإسلامي وبين الأدب الأمريكي المتسامي كما جاء في ورقة كيرتف ليدشيرLeidecker,1951)): “أيمرسون والتأليف بين الشرق والغرب”. وتدمج “المتعالية” بين الدّين والفلسفة، كما تختلف بحسب التّجربة الشّخصيّة بين إنسان وآخر. كذلك مفهوم التّصوّف في الإسلام (Mysticism).
ديناميكيّة تحرّك الأفكار بين الشّرق والغرب
نشأت المتسامية الأمريكية (Transcendentalism) في بدايات القرن 19م كنزعة رومانسيّة روحانيّة، محاولةً إدراك حقائق الدّين وأسئلته الوجوديّة حول الطّبيعة والنّفس والرّوح. آرثر فيرسلويس (Arthur Versluis) يعتبر أن المتسامية الأمريكيّة تأثرت بالمتسامية الشرّقيه ( الصّوفية ) ، وذلك من خلال التّرجمة والنّقل للأمم الأخرى (,Awwad, 2018, p14).
أعمال رائد المتسامية الأمريكية الأديب رالف والدو إيمرسون تزخر بمعاني المثاليّة والزّهد والحبّ الألهي المستوحاة من الصوفيّة الإسلاميّة تحديداً الفارسيّة. بعض الدّراسات توضّح أنّ أدب أيمرسون يمكن تفسيره من خلال تأويل السيّاق التراثي الألماني، وأنّ تأثره بالتّراث الشّرقي يأتي من فهمه المسبق لفلسفة إيمانويل كانت الألمانيّة “، وتأثره بأفكار يوهان جوته الذي روّج إلى التّقريب بين الآداب ورفض الإقصاء والفوقيّة، وسياسة عزل الأدب “الآخر” (Awwad, 2018, p16).
امتلكت الصّوفيّة تأثيراً قوياً على المتسامية الأمريكية والشّعر الرّومانطيقي، فلم تقدّم تصوّرات شرقيّة فقط بل امتلكت تشابهات في الخبرات الإنسانيّة في مواضيع الجمال والطّبيعة وغموض الكون والإنسان.
وكانت مساهمة ” الأدب المقارن” خاصّة في القرن 17م ذات أهميّة كبرى في نشر الملاحم والشّعر والفلسفة بين الشّرق والغرب. و كان التّبادل الثّقافي يهدف إلى نقل الخبرات وإبراز الإبداع أيّاً كان منشأه، وهذا ما أشار له إيمرسون في أحد عباراته : “نحن نقرأ الشّرق لكنّنا نبقى من الغرب” (Bazei & Alif, 1989, p.88). وتأثر إيمرسون بالشّاعر الصّوفي ابن عربي[1]. ويشرح كارل جاكسون (Karl. T. Jackson) في مقاله “الشّرق ما بعد الحرب الأمريكيّة”. كيف أن إيمرسون وهنري ديفيد ثورو[2] تأثروا بالأفكار الشّرقيّة حتّى غير الإسلاميّة؛ وخاصة التّأثر بالقراءات الهنديّة.
وامتلكت الصّوفيّة تأثيراً قوياً على المتسامية والشّعر الرّومانطيقي، فلم تقدّم تصوّرات شرقيّة فقط بل امتلكت تشابهات في الخبرات الإنسانيّة في مواضيع الجمال والطّبيعة وغموض الكون والإنسان (Jackson, 1970). وتأثر الرّومانطيقيون الجدد بالرّوحانيّة الصّوفيّة، ونظروا إلى الشّرق كمهد ورحم خصب للحكمة والسّلام والحبّ في العالم لامتلاكه مثل هذه المعرفة التي افتقدها الغرب خاصّة إبّان الحرب الأهليّة الأمريكيّة، التي مزّقت المجتمع وتسبّبت في ندوب واضحة للإنسان، ولهذا ارتفعت قيمة الشّعر الصّوفي في القرن19م بشكل كبير (Aminrazavi,M.& Needleman,J, 2014).
كان التّشابه بين مفردات ابن عربي في ” ترجمان الأشواق” ومفردات إيمرسون في ” الطّبيعة ” و “أعطِ كل شيء للحب” من جهة ثانية كبيراً، أمّا الإختلاف تجسّد في طريقة تعبير كل واحد عن مفاهيم ” الحبّ الالهي” و “الجمال” و ” الطّبيعة “و ” الرّوح “. دراسات أخرى بيّنت التّشابه بين ابن الرّومي ووالت ويتمانWalt Whitman تحديداً في قصيدة الأخير” الدّرس الفارسي” (Awwad, 2018, p60 ).
تحوّل المفاهيم، وإعادة تشكيل فكرة الأدب المقارن في القرن 19:
دراسات حديثة كرونولوجيّة درست تحوّل مفهوم عالمية الأدب بعد الحرب العالمية الثانية، والتحاق المفهوم بحركة الاستشراق الاستعماريّة، ومحاولة الغرب ابتكار طريقة ينظر بها إلى ذاته وإلى الآخر نظرةً فوقيّة تفوّقيّة، وتحوّل جوهر”الأدب المقارن” من تبادل واعتراف بالآخر إلى ” تغريب الأدب” أي ربطه بالغرب. جاك دريدا وقف معترضاً ضد المفهوم وابتكر نظرية تفكيكة لمركزية الأدب المقارن بعد الحرب العالمية الثانية. وتأثّر بهذه النّظريّة حسن حنفي الذي روّج للاستغراب[3] كاستشراق مضاد. ( حمداوي. 2019).
ونشط في الجانب الأمبريقي التّفكيكي الاستغرابي كل من إدوارد سعيد[4] وميشيل فوكو وأنطونيو جرامشي حيث نقدوا نظرية ” ما بعد الاستعمار” التي تحمل بذور الهيمنة والصّراع.
تيموثي برينانل(Timothy Brennan) في مقاله “إدوادرد سعيد والأدب المقارن”. يركّز على دور إداورد سعيد في إعادة صياغة وتعريف الأدب المقارن، وأهميّة خلق أدب مقارن جديد مختلف عن القديم خاصّة بعد الحرب العالميّة الثّانية ( برينان. 2014)”. وأكد إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” بضرورة دراسة الخصم كموضوع، بعيداً كل البعد عن التّجاهل الذي مارسه الغرب تجاه الأدب العربي بشكل خاص. حيث درسه المستشرقون كموضوع للدّراسة منزوعاً عن أصوله وسياقاته التّاريخيّة.
وأخيراً، نجد في هذا المقال أنّ الصّوفيّة والمتسامية كانتا رمزاً حيوياً للاشتباك والنّقل الثّقافي حسب دراسات الأدب المقارن بين الشّرق والغرب من حيث تأثير كل منهما على الآخر ومعالجتهما لذات الأفكار. ودراسة هذا الجانب مازال غير مكتمل مع تعدد الكتابات فيه وتنّوعها، ومع وجود التّشابه في الفكر الإنساني واللّغة الشّعرية والنّثرية والّتزامن التّاريخي بين المدرستين، إلاّ أنّ التّباين بين روّاد الصّوفية والمتسامية كبير من حيث المرجعيّات الأكاديميّة وأصول التتّلمذ. فالصّوفي نشأ في مدارس محليّة تقليديّة أمّا المتسامي فتلقّى تعليماً جامعياً مثل جامعة هارفارد، إلى جانب أنّهم تأثّروا ببعضهم عبر التّرجمة المتبادلة ولم يلتقوا ببعضهم البعض. ومع هذه المعطيات كان هناك تداخل أدبي ثقافي عميق بين الشرق والغرب. وجبَ تسليط الضّوء عليه.
المراجع بالإنجليزية
Almansour, A. (2005). The Middle East in Antebellum America: The Cases of Ralph Waldo Emerson, Nathaniel Hawthorne, and Edgar Allan Poe. Ohio State University.
Aminrazavi, M., & Needleman, J. (2014). Sufism and American Literary Masters. Amsterdam University Press.
Al-Bazei, S. A. (1989). Orientalist Discourse and the Concept of Tradition in Anglo-American Literary Criticism/ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻹﺳﺘﺸﺮﺍﻗﻲ ﻭﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻘﺪ ﺍﻷﻧﺠﻠﻮ – ﺃﻣﺮﻳﻜﻲ. Alif: Journal of Comparative Poetics, 9, 84. https://doi.org/10.2307/521591
Awwad. M. (2018). Sufism and Transcendentalism: A Comparative Study between Ibn Arabi, Emerson and Whitman (MA, Thesis, Middle East University).
Brennan, T. (2004). Edward Said and Comparative Literature. Journal of Palestine Studies, 33(3), 23–37. https://doi.org/10.1525/jps.2004.33.3.023
Jackson, C. T. (1970). The Orient in Post-Bellum American Thought: Three Pioneer
Leidecker, K. F. (1951). Emerson and East-West Synthesis. Philosophy East and West, 1(2), 40.
Marino, A. (1988). Comparatisme et théorie de la littérature. Paris: Presses universitaires de France
Neema, M. (2012). Transcendentalism and Sufism: The First Light of Two Similar Dawns. (PhD, Oran University), Algeria.
Said, Edward W. 1979. Orientalism. New York: Vintage Books.
المراجع بالعربية
حمدواي. جميل،( 2019)، الاستشراق والاستمزاغ والاستعراب والاستغراب: مقاربة مفاهيمة، دراسات استشراقية. ) عدد 19(، المغرب.
سعيد. إدوارد،( 1979)، الاستشراق: منهجية تفكيكيّة في دراسة الخطاب الاستشراقي الغربي وفضح سياساته. نيويورك. راندوم هاوس.
[1] المتصوف الكبير الامام محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي ، لقب بالشيخ الأكبر و لذا ينسب إليه مذهب باسم الأكبرية. ولد بمرسية في الأندلس في شهر رمضان الكريم عام 558هـ الموافق 1164م عامين قبل وفاة شيخ عبد القادر الجيلانى وتوفي في دمشق عام 638هـ الموافق 1240م. ودفن في جبل سفح قاسيون.
[2] هنري ديڤيد ثورو Henry David Thoreau (ولد 12 يوليو 1817 – 6 مايو 1862) كان كاتباً وشاعراً أمريكياً وكان محباً للطبيعة، مقاوماً للضرائب، ناقداً للتطور، مساحاً، مؤرخاً، فيلسوفاً، وأحد رواد الفلسفة المتعالية.
[3] حمدواي. جميل،( 2019)، الاستشراق والاستمزاغ والاستعراب والاستغراب: مقاربة مفاهيمة، دراسات استشراقية. ) عدد 19(، المغرب.
[4] سعيد. إدوارد،( 1979)، الاستشراق: منهجية تفكيكيّة في دراسة الخطاب الاستشراقي الغربي وفضح سياساته. نيويورك. راندوم هاوس.
لا تتحمل فيستو أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء منظمة فيستو. تتعهد فيستو بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.