المقدمة:
لم تسهم أطروحة الدكتورة هبة جمال –كما وردت في الجزء الأول من هذه المقالة– إلى تنشيط ذاكرة المؤلف لربط الأحداث السابقة بالقضية الحالية فحسب، بل إنها دفعت المؤلف إلى القيام بالمزيد من الأبحاث حول هذه المسألة. لذلك يعرض هذا الجزء بإيجازٍ الخطوات السابقة التي تم اتخاذها لتمهيد الطريق أمام تنفيذ هذا المشروع. علاوة على ذلك، يوضح هذا الجزء أن القضية الفلسطينية هي الصخرة العنيدة التي تسد بوابة المشروع الأمريكي الاستعماري الجديد. علاوة على ذلك، يوضح هذا الجزء أن أوروبا بما في ذلك تجربتها في الاتحاد الأوروبي تمثل “نهاية التاريخ” الحقيقية، وبالتالي، فإن عليها التزامًا أخلاقيًا وتاريخيًا بمعارضة هذا المشروع الأمريكي وتعزيز الديمقراطية الليبرالية وسيادة القانون (الدولي).
- الإبراهيمية في طور التكوين:
عندما تبلورت فكرة هذا المقال، شرع المؤلف في البحث لإيجاد سبب معقول وراء الاستخدام المستمر للرمز الديني “إبراهيم” لوصف هذه الاتفاقية، وبشكل أكثر تحديدًا، الإصرار على تقديمها على أنها بداية السلام الإقليمي بين العقائد المختلفة في الشرق الأوسط. ركزت كتابات الدكتورة هبة حمال الدين على جهود الولايات المتحدة في إنشاء أدوات لتنفيذ هذا المشروع. لذلك، يوضح هذا الجزء الخطوات السابقة التي اتخذتها دولة الإمارات العربية المتحدة وسهّلتها لتحقيق ذات الغاية. علاوة على ذلك، يوضح هذا الجزء أن هذه الخطوات لم تكن موضع ترحيب، ليس فقط من المسلمين، بل من المسيحيين كذلك.
لقد رسخت الولايات المتحدة وعززت القيم والرؤى المسيحية، على الرغم من حقيقة أن الآباء المؤسسين لها لم يريدوا للولايات المتحدة ذلك أبدًا. أما بالنسبة لإسرائيل، فقد استند تأسيسها على ادعاء أنها “دولة يهودية”. في المقابل، على الرغم من أن الإمارات العربية المتحدة دائمًا ما كانت تصور نفسها على أنها دولة علمانية وتقدمية، إلا أنها غيرت شكلها في السنوات القليلة الماضية – بطريقة سلسة وماكرة للغاية – من دولة علمانية إلى دولة “وئام بين الأديان” تشجع الحوار بين العقائد التوحيدية. في الواقع، فعلت الإمارات العربية المتحدة ذلك لتقديم نفسها على أنها أفضل مرشح للتحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل في هذا المشروع الإقليمي الأمريكي الجديد. وعليه فقد نُحِت الوجه الديني الجديد للإمارات بسرعة في السنوات القليلة الماضية. في الـ 18 من تموز/يوليو 2014، أنشأت دولة الإمارات العربية المتحدة مجلس حكماء المسلمين، وقد اعتُبر هذا بمثابة محاولةٍ لاستبدال الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لقد كان الهدف الحقيقي من إنشاء هذا المجلس الجديد محط شكوكٍ جادّة بين المسلمين، خاصة في العالم العربي. وتعززت هذه الشكوك بشكل خاص بعد أن فشل المجلس في إدانة التطبيع الإماراتي مع إسرائيل، فيما أدانه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين واعتبره غير جائز قبل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي واستقلال فلسطين.
استضافت دولة الإمارات العربية المتحدة لقاء الأخوّة الإنسانية في الرابع من شباط/فبراير 2019، الذي نظمه مجلس حكماء المسلمين، بهدف تعزيز الحوار بين الأديان حول التعايش بين البشر على مستوى العالم. وعُقد الاجتماع بالتزامن مع زيارة الدكتور أحمد الطيب إمام الأزهر الشريف والبابا فرنسيس رئيس الكنيسة الكاثوليكية إلى أبو ظبي. وصدرت وثيقة حول الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك في الاجتماع ووقعها كل من الإمام الأكبر والبابا. وبعد أسبوع، أعلن عبد الله بن زايد، وزير الخارجية والتعاون الدولي لدولة الإمارات العربية المتحدة، أنه اعتبارًا من العام المقبل، ستكون وثيقة الأخوة الإنسانية جزءًا من المناهج التعليمية في المدارس والجامعات. وانتقد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين المؤتمر المذكور ونفى دعمه للوثيقة، بينما وصف الإمارات بأنها “دولة المؤامرات“.
وفي الـ 5 من شباط/فبراير 2019، أصدر محمد بن زايد قرارًا ببناء ما أسماه “بيت العائلة الإبراهيمية” كتمثيل لرؤية الإمارات للوئام بين الأديان في أبو ظبي، وذلك إحياءً لذكرى الزيارة التاريخية التي قام بها البابا والإمام الأكبر، وتجسيدًا للتعايش السلمي بين المجتمعات المختلفة في الإمارات. سيضم بيت العائلة الإبراهيمية مسجدًا وكنيسة وكنيسًا يهودياً في مجمع واحد. لم ينتقد هذا المشروع في العالم الإسلامي فحسب، بل تعرض أيضًا لانتقادات كثيرة من المسيحيين، خاصة الكاثوليك. والذين اعتبروا أن هذا المشروع يمثل “معبد لدين عالمي جديد” (انظر هنا وهنا). لا ينبغي عرض هذه الأحداث بمعزل عن بعضها البعض، إذ تُظهر هذه الخطوات نمطًا تتبعه دولة الإمارات العربية المتحدة، ليس فقط لإعادة تشكيل خارطة المنطقة ولكن أيضًا لإعادة تشكيل معتقدات شعوبها.
- الصخرة العنيدة التي تسد البوابة:
لا شك أن القضية الفلسطينية هي بوابة أي تسوية سياسية في الشرق الأوسط، فالقدس على وجه الخصوص هي الصخرة العنيدة التي تعيق هذا المشروع الاستعماري الجديد. من الناحية الموضوعية، لا تعارض فلسطين هذا المشروع الأمريكي من باب تحدي الولايات المتحدة فحسب، بل إنها تقوم بذلك لحماية مصالحها وحقوقها المشروعة، بما في ذلك الحق في تقرير المصير. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المشروع لتصفية القضية الفلسطينية يعد المحاولة الثامنة والثمانين منذ العام 1917. ولكن هذه المحاولة ليست الأخيرة فحسب، لكنها الأخطر كذلك، إذ أنها تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية ضمن مشروع أكبر للمنطقة بأكملها، ومع أطراف/شركاء جددٍ طموحين، مثل الإمارات العربية المتحدة.
هذا المشروع لتصفية القضية الفلسطينية يعد المحاولة الثامنة والثمانين منذ العام 1917. ولكن هذه المحاولة ليست الأخيرة فحسب، لكنها الأخطر كذلك
يستند الافتتاح الرئيسي لهذا المشروع الأمريكي، المعروف باسم صفقة القرن، إلى الرواية الإسرائيلية بشكل أساسي، وهي رواية معروف بأنها مبنية على السرديّة التوراتيّة. علق الراحل صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين على إعلان الصفقة قائلاً: “ أستطيع أن أؤكد لكم أن فريق الولايات المتحدة لم يكتب كلمة واحدة أو فاصلة في هذا البرنامج. لدي البروتوكولات وأرغب في الكشف عما عُرض علينا. هذه هي خطة نتنياهو ومجلس المستوطنات.“. لا شك في أن الولايات المتحدة تتبنى رواية حليفتها، قوة الاحتلال، إسرائيل. ومع ذلك، ينبغي ملاحظة أن الولايات المتحدة تفعل ذلك فقط إلى الحد الذي يخدم سياستها الخارجية ومصالحها في المنطقة. وكما هو متوقع، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل معزولتان في هذه الرؤية. فعلى سبيل المثال، دُعِي كل من الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والعديد من الدول الأخرى لحضور حفل الإعلان عن الصفقة، لكن أيًّا منهم لم يحضر، ولم يعترف بأي من الخطوات الأمريكية في هذا الصدد. والسبب هو أن هذه الصفقة تتجاهل معايير القانون الدولي وإجماع المجتمع الدولي على كيفية حل هذه القضية.
القدس، مدينة السلام، كانت وستظل مسألةً جوهرية لأي تسوية سياسية. من الضروري ملاحظة أن الهدف وراء المشروع/الصفقة الأمريكية هو تغيير الوضع الراهن في المدينة. كان هذا هو السبب الرئيسي لمعارضة الفلسطينيين الشديدة للصفقة. سيستعرض المؤلف الخطوات السابقة التي اتخذتها إسرائيل والولايات المتحدة في هذا الصدد لإظهار مدى حساسية وجوهرية هذه القضية. في البداية، تبنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في تشرين الأول/أكتوبر 2016 قرارًا بشأن البلدة القديمة المحتلة بشكل غير قانوني في القدس الشرقية. وأشار القرار – انسجاماً مع القانون الدولي – إلى القدس الشرقية على أنها جزء من دولة فلسطين المحتلة، وأدان إسرائيل لسماحها بعدوان المستوطنين على الشعب الفلسطيني، وأدان كذلك الفشل الماضي والمستمر في حماية المسجد الأقصى/الحرم الشريف.
انتقدت إسرائيل والولايات المتحدة القرار بشدة. ونتيجة لذلك، انسحبت الدولتان في العام 2017 من اليونسكو، واصفةً القرار بأنه قرار مناهض لإسرائيل. كما اعترف ترامب في كانون الأول/ديسمبر 2017 بالقدس (الموحدة) كعاصمة لإسرائيل ونقلَ السفارة الأمريكية إلى القدس في أيار/مايو 2018. كما أنهت الولايات المتحدة مساعدتها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بعد فشلها في تغيير مناهجها في المدارس الفلسطينية في نيسان/أبريل 2017 (انظر هنا وهنا). ليس ذلك فحسب، بل إن الولايات المتحدة الأميركية انسحبت في العام 2018 من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، واصفةً إياه بأنه هيئة مناهضة لإسرائيل. لا ينبغي غض الطرف عن هذه الأحداث، أو النظر إليها بمعزل عن بعضها البعض: فجميعها مرتبطة وتؤدي إلى هدف واحد، وهو تصفية القضية الفلسطينية لصالح كل من قوة الاحتلال، إسرائيل، والمشروع الأمريكي الأكبر للمنطقة بأسرها، وهو الاتحاد الإبراهيمي برئاسة حليفتها، قوة الاحتلال، إسرائيل.
- أوروبا “نهاية التاريخ”:
تشير نهاية التاريخ كمفهوم سياسي وفلسفي إلى أن نظامًا سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا معينًا قد يُطور ويشكل نقطة النهاية للتطور الاجتماعي والثقافي للإنسانية، وكذلك الشكل النهائي للحكومة البشرية (انظر فوكوياما). يختلف هذا المفهوم عن مفهوم القيامة (أو أحداث نهاية الزمان) وهي فكرة نهاية العالم كما تم التعبير عنها في الأديان المختلفة والتي قد تتنبأ بتدميرٍ كاملٍ للأرض أو للحياة على الأرض، ونهاية الجنس البشري كما نعرفه. لقد كان لألكسندر كوجيف، الفيلسوف الروسي الفرنسي، المعروف بنظريته “نهاية التاريخ“، سلسلة ندوات مؤثرة للغاية عقدت في باريس في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث عرض رؤيته بأن نهاية التاريخ متمثلة حقًا بالاتحاد الأوروبي، وليس الولايات المتحدة. وبالمثل، جادل فرانسيس فوكوياما بأن الاتحاد الأوروبي يمثل الحالة النهائية لنهاية التاريخ، لا الولايات المتحدة. وأكد أن الولايات المتحدة دولة عسكرية تشن الحروب وتتصرف على غير الشاكلة التي يفترض أن يتصرف بها “الرجل الأخير”. على النقيض من ذلك، يؤمن الأوروبيون بصدق بفترة ما بعد القومية، إذ تكمن المشكلة الرئيسية في السيادة والأنانية الوطنية (انظر هنا: دقيقة 49:51). كما أضاف أن نهج الاتحاد الأوروبي هو بناء منزل للرجل الأخير، بإنشاء “دستور أوروبي” من خلال معاهدة تأسيس دستور الاتحاد الأوروبي.
تم تحديد قيم الاتحاد الأوروبي في الفقرة الثانية من المادة الأولى من معاهدة تأسيس دستور الاتحاد الأوروبي، التي تنص على أن: “الاتحاد يقوم على قيم احترام كرامة الإنسان والحرية والديمقراطية والمساواة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الأشخاص المنتمين إلى الأقليات.” وعليه، فمن أجل احترام كرامة الإنسان، وضمان الحرية، وتحقيق المساواة؛ يجب أن تكون الديمقراطية، وسيادة القانون، وكذلك احترام حقوق الإنسان، نظامًا فعالاً للعدالة النزيهة. في المقابل، فإن الديمقراطية الليبرالية هي الشكل الوحيد للحكومة التي يمكنها تحقيق مساءلة فعالة للقادة السياسيين، وذلك ببساطة لأن الديمقراطية الليبرالية – كفلسفة أخلاقية – تقوم على أساس الحرية ورضاء المحكومين والمساواة أمام القانون.
- ملاحظة أخيرة:
في هذه الحالة، يواجه قادة الولايات المتحدة، وقوة الاحتلال، إسرائيل، والإمارات العربية المتحدة تحديات نابعة من الديمقراطية الليبرالية وآليتها المكوّنة “المساءلة”. في الجزء الأخير من هذا المقال، سيوضح المؤلف، من بين أمور أخرى، كيف يشكل هؤلاء القادة وسياسات الدبلوماسية الروحية تهديدًا وشيكًا للديمقراطية الليبرالية في بلدانهم. علاوة على ذلك، يوضح الجزء التالي أنه إذا تم تنفيذ هذه الخطة، فقد تكون المسمار الأخير في نعش القانون الدولي كما نعرفه. علاوة على ذلك، سيكون بمثابة إعلان رسمي عن ظهور حقبة من القانون الدولي التوراتي الجديد.
* تم نشر هذا المقال أولا باللغة الإنجليزية عبر منصة “من أجل السلام والإنسانية Platform for Peace and Humanity”. للاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال، انقر
لا تتحمل فيستو أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء منظمة فيستو. تتعهد فيستو بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.